وَأَبُو الْخَطَّابِ فِي خِلَافَيْهِمَا فِي بَقِيَّةِ الْعُقُودِ الْمُسَمَّاةِ وَأَنَّهَا تَبْقَى أَمَانَةً كَمَا لَوْ أَطَارَتْ الرِّيحُ إلَى دَارِهِ ثَوْبًا، هَذَا يَحْتَمِلُ أَنَّهُ مَعَ عِلْمِ الْمَالِكِ بِالْحَالِ لَا يَجِبُ الدَّفْعُ لِأَنَّ الْوَاجِبَ التَّمَكُّنُ مِنْهُ لَا حَمْلُهُ إلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ عُقُودِ الْأَمَانَاتِ الْمَحْضَةِ وَالْمُعَاوَضَاتِ أَنَّ الْمُعَاوَضَاتِ تُضْمَنُ بِالْعَقْدِ وَبِالْقَبْضِ فَإِذَا كَانَ عَقْدُهَا مُضَمَّنًا كَانَ فَسْخُهَا كَذَلِكَ وَعُقُودُ الْأَمَانَاتِ لَا تُضْمَنْ بِالْعَقْدِ فَكَذَلِكَ بِالْفَسْخِ.
(وَالْوَجْهُ الثَّانِي) أَنَّهُ يَصِيرُ مَضْمُونًا إنْ لَمْ يُبَادِرْ إلَى الدَّفْعِ إلَى الْمَالِكِ كَمَنْ أَطَارَتْ الرِّيحُ إلَى دَارِهِ ثَوْبًا وَصَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ خِلَافِهِ فِي الْوَدِيعَةِ وَالْوِكَالَةِ وَكَلَامُ الْقَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ يُشْعِرُ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْوَدِيعَةِ وَالرَّهْنِ فَإِنَّهُمَا عَلَّلَا كَوْنَ الرَّهْنِ أَمَانَةً بِأَنَّهُ أَمَانَةٌ وَوَثِيقَةٌ فَإِذَا زَالَتْ الْوَثِيقَةُ بَقِيَتْ الْأَمَانَةُ كَمَا لَوْ كَانَ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ فَأَذِنَ لَهُ فِي بَيْعِهَا ثُمَّ نَهَاهُ، وَهَذَا التَّعْلِيلُ مُقْتَضَاهُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْوَدِيعَةِ وَبَيْنَ الشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالْوِكَالَةِ لِأَنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ كُلَّهَا مُشْتَمِلَةً عَلَى ائْتِمَانٍ وَتَصَرُّفٍ فَإِذَا زَالَ التَّصَرُّفُ بَقِيَ الِائْتِمَانُ بِخِلَافِ الْوَدِيعَةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهَا غَيْرُ ائْتِمَانٍ مُجَرَّدٍ فَإِذَا زَالَ صَارَ ضَامِنًا وَحُكْمُ الْمَغْصُوبِ إذَا أَبْرَأ الْمَالِكُ الْغَاصِبَ مِنْ ضَمَانِهَا كَمَا ذَكَرْنَا.
(الْقِسْمُ الثَّالِثُ) أَنْ تُحَصِّلُ فِي يَدِهِ بِغَيْرِ فِعْلِهِ كَمَنْ مَاتَ مُوَرِّثُهُ وَعِنْدَهُ وَدِيعَةٌ أَوْ شَرِكَةٌ أَوْ مُضَارَبَةٌ فَانْتَقَلَتْ إلَى يَدِهِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ الْإِمْسَاكُ بِدُونِ إعْلَامِ الْمَالِكِ كَمَا سَبَقَ لِأَنَّ الْمَالِكَ لَمْ يَأْتَمِنْهُ، وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ هَانِئٍ فِي الرَّهْنِ أَنَّهُ لَا يَقَرُّ فِي يَد الْوَصِيِّ حَتَّى يُقِرَّهُ الْحَاكِمُ فِي يَدِهِ فَإِنْ تَلِفَتْ تَحْتَ يَدِهِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْأَدَاءِ فَلَا ضَمَانَ لِعَدَمِ التَّفْرِيطِ، وَكَمَا لَوْ تَلِفَتْ اللُّقَطَةُ قَبْلَ ظُهُورِ الْمَالِكِ، وَيَتَخَرَّجُ وَجْهٌ آخَرُ بِالضَّمَانِ كَمَا خَرَّجَهُ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْبَيْعِ، وَإِنْ تَلِفَتْ بَعْدَهُ فَالْمَشْهُورُ الضَّمَانُ لِتَعَدِّيهِ بِتَرْكِ الرَّدِّ مَعَ إمْكَانِهِ وَهُوَ غَيْرُ مُؤْتَمَنٍ، وَحَكَى صَاحِبُ الْمُقْنِعِ وَجْهًا آخَرَ وَأَشَارَ إلَيْهِ صَاحِبُ التَّلْخِيصِ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ وَيَكُونُ أَمَانَةً عِنْدَهُ كَمَا لَوْ انْقَضَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ ثُمَّ تَلِفَتْ الْعَيْنُ عِنْدَ الْمُسْتَأْجِرِ وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ فَإِنَّ الْمُسْتَأْجِرَ مُسْتَصْحِبٌ لِلْإِذْنِ فِي الْقَبْضِ بِخِلَافِ هَذَا وَكَذَلِكَ حُكْمُ مَنْ أَطَارَتْ الرِّيحُ إلَى بَيْتِهِ ثَوْبًا كَمَا سَبَقَ وَوَقَعَ فِي بَعْضِ كَلَامِ الْقَاضِي أَنَّهَا أَمَانَةٌ عِنْدَهُ وَلَعَلَّ مُرَادَهُ مَعَ عِلْمِ الْمَالِكِ وَإِمْسَاكِهِ عَنْ الْمُطَالَبَةِ فَيَكُونُ تَقْرِيرًا، وَلَوْ دَخَلَ حَيَوَانٌ لِغَيْرِهِ أَوْ عَبْدٌ لَهُ إلَى دَارِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُخْرِجَهُ لِيَذْهَبَ كَمَا جَاءَ لِأَنَّ يَدَهُ لَمْ تَثْبُتْ عَلَيْهِمَا بِخِلَافِ الثَّوْبِ ذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ.