الصورة الثالثة: رجل كان صائماً صيام فرض، وبعد العصر وجد في نفسه ضعفاً شديداً ثم جاءت سحابة فقال: الحمد لله، سقط حاجب الشمس، فأكل وشرب حتى ملأ بطنه، فانقشعت الغمامة فوجد الشمس قد أشرقت مرة ثانية، فما حكم صيامه؟ إنَّ هذه المسألة تجاذبها الاختلاف الكثير: فبعض العلماء يقولون: لا تلزمه، حيث إن عمر بن الخطاب هو الذي جعل هذا الخلاف، وذلك لمَّا كان في زمن عمر بن الخطاب إذ جاءت سحابة، فأفطروا، فلم يلزمهم بقضاء هذا اليوم، بل أمسكوا حتى سقط حاجب الشمس وأكلوا بعد ذلك.
لكنَّ عروة بن الزبير يروي حديثاً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أسماء: أن السحابة غطت الشمس فأكلوا، فلم يرد تصريحاً من الحديث قضوا أم لم يقضوا، فقال عروة بن الزبير لما سألوه: قضوا، وقال: لا بد، يعني: القضاء لازم؛ لأنهم أكلوا قبل دخول الليل، وبذلك أصبح إشكالاً عظيماً بين العلماء.
ونحن لو طبقنا القاعدة الفقهية فنقول: الأصل بقاء النهار على ما كان عليه، فعليه القضاء، لكن حديث عمر بن الخطاب دليل واضح جداً على عدم القضاء، مما جعلنا نخالف ونغاير القاعدة بأنه حدث الغيم فأفطروا جميعاً، ولم يلزمهم بالقضاء، وظاهر حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنهم ما ألزموا بالقضاء.
فالصحيح الراجح في ذلك: أنه لا يقضي هذا اليوم إن كان مجتهداً، أما إن كان مقلدا ًلغير مجتهد أو سمع رجلاً يؤذن من غير أن ينظر إلى السماء، فهذا عليه القضاء؛ لقول الفقهاء وقول المحدثين: الأصل بقاء ما كان على ما كان.
وهناك صورة أخرى لهذه القاعدة: وهي رجل قام من الليل بعد بزوغ الفجر، وكان قد بيت النية بالصيام، فأكل وشرب، وبعد ذلك سمع رجلاً يقيم الصلاة، أما الأذان فقد ولى وفات من مدة، فماذا نقول؟ أنقول: أكمل صومك، أم قد أفطرت فأمسك ثم اقض عن نفسك هذا اليوم؟ فإذا طبقنا القاعدة نقول: الأصل بقاء ما كان على ما كان عليه، إذاً: فالأصل بقاء الليل، وهذا الذي قام يأكل ويشرب إنما فعله في الليل، وهذا يعضده قول ابن عباس كل ما شككت حتى تستيقن طلوع الفجر، وهذا قد أكل وهو شاك.
فالصحيح الراجح في ذلك أن نقول له: الأصل بقاء ما كان على ما كان، فعليك أن تتم صومك، حتى لو أكلت بعد الفجر.
أما الذي جعلنا نستثني من هذه القاعدة مسألة الأكل بالنهار، فهو حديث عمر بن الخطاب وظاهر حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا قضاء عليه، ويدلنا على ذلك: حديث عدي بن حاتم عندما قرأ قول الله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187] فأخذ خيطين أسود وأبيض تحت الوسادة، فيأكل وينظر إليها، فإن لم يفرق بينهما استمر في الأكل حتى يشبع، فلما ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبين له ذلك، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن وسادك لعريض)، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يقصد أن يسب أصحابه بهذه الطريقة، ولا يصح أن نقول ذلك ولا يظن في النبي صلى الله عليه وسلم أنه تكلم على أصحاب بدر، لكن النبي صلى الله عليه وسلم يقصد بقوله: (إن وسادك لعريض)، أي: الوسادة التي أنت نائم عليها هل ستأخذ حجم السماء بأسرها؛ حيث إن الخيط الأبيض والخيط الأسود هما بياض النهار من سواد الليل، فلو أن هذا الخيط الأسود غطى السماء كلها فإن وساده هذا لعريض.
وهذا هو الصحيح الراجح الذي لا نحيد عنه، ولا يصح أن نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم يتهم عدي بن حاتم بالغباوة، حاشا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل ذلك مع أصحابه.
فهذا أكل بعدما طلع النهار والنبي صلى الله عليه وسلم قد أقره على ذلك طالما كان مجتهداً، فالصحيح الراجح: أنه لا بد أن نستثني هذه القاعدة، وهي أن المجتهد الذي عنده آلة الاجتهاد لا نلزمه بقضاء شيء، بحال من الأحوال، إذا أدى العبادة على غرار اجتهاده مع وجود الآلة، وقيده: وجود آلة الاجتهاد، فمع وجودها فلا قضاء عليه.