من صور الحيل المتعلقة بهذه القاعدة العظيمة: مسألة اختلف فيها جمهور أهل العلم، وهي مسألة التورق، وهي مسألة مشهورة بين التجار باسم: حرق البضاعة.
ومعناها: أن يشتري الرجل السلعة وهو لا يريدها لكنه يريد الورق، أي: المال، فيشتريها نسيئة بألف، ثم يذهب إلى السوق فيبيعها على غير البائع الذي اشتراها منه، بسبعمائة أو ثمانمائة نقداً، وهذه المسالة سميت بالتورق ولم تسم عينة؛ لأن العينة والتورق يتفقان ويفترقان.
فيتفقان في النية، وذلك أن المقصد منها الورق -أي: المال-، ويفترقان بأن السلعة في مسألة العينة ردها المشتري على صاحبها، وفي مسألة التورق لم يردها على صاحبها، فهذا هو الفارق.
فقال الجمهور: لا يقاس التورق على العينة، فالتورق جائز والبيع معه صحيح، وأدلة ذلك ما يأتي: أولاً: قول الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275]، وهذا الرجل اشترى من آخر شراءً صحيحاً، وباع بيعاً صحيحاً، ولم يبع لنفس البائع، فلا يدخل تحت بيع العينة.
ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أقر المعاملة بالتورق، كما في حديث الجنيب، (وهو أن بلالاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر جنيباً، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أكل تمر خيبر هكذا؟ قال: لا والله يا رسول الله! إنا نشتري الصاع بالصاعين)، أي: نعطي بدل الصاع من الجنيب، صاعين من الجمع، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم -تعجباً وتأوهاً- قال: (أوه، عين الربا، لا تفعل، بع الجمع بالدراهم، واشتري بالدراهم جنيباً)، وهذا هو موضع الشاهد.
فقالوا: إنه باع الجمع بالدراهم وما قصد الدراهم، إنما قصدا الجنيب، فأخذ الدراهم واشترى بها جنيباً، فباع واشترى، وكان بيعاً صحيحاً، وهذه هي صورة التورق، وهذه أدلة الجمهور.
والصحيح الراجح: ما رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية، إن عادوه كثيراً، وكادوا يقتلونه على هذه المسألة؛ لأنه خالف الأئمة، وقال بما يراه حقاً.
فيقول: شيخ الإسلام: التورق حرام؛ لأن العلماء قد قعدوا قاعدة لا بد من تطبيقها، وهي قاعدة العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني، وليست بالألفاظ والمباني، فالذي اشترى السلعة إنما اشتراها من أجل السيولة، وليس ليتاجر بها، فاشتراها من أجل الورق، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)، وقال: (قاتل الله اليهود، حرم الله عليهم الشحوم فأذابوه، ثم جملوه، ثم باعوه وأكلوه ثمنه).
وقد قال ابن عباس -أعلم الناس بالحديث-: ما هي إلا دراهم بدراهم بينها حريرة، معنى ذلك: أن التاجر باع ألفاً نسيئة بسبعمائة نقداً، باعها في المجلس ولم يحدث التقابظ، وأيضاً حصل فيهما تفاضل، فدخل في ربا النسيئة، ودخل في ربا الفضل، فهي دراهم بدراهم، وما دام أنها دراهم بدراهم فيشترط فيها شرطان: الشرط الأول: التقابظ في المجلس، يداً بيد.
والشرط الثاني: المساواة، مثلاً بمثل.
فالتورق كما يقول ابن عباس: دراهم بدراهم أدخل بينهما حريرة، وهذا تحايل على الشرع، فصاحب التورق ما أراد السلعة، وإنما أراد المال، وأخذ السلعة ليبيعها، وما أراد البيع إلا لإرادة المال، فكأنها مسألة صرف دراهم بدراهم، بينهما سيارة أو ثلاجة أو غير ذلك، والعبرة في العقود ليست بالألفاظ والمباني، وإن صحت ظاهراً، لكن العبرة فيها بالمقاصد والمعاني.
ففي هذا التقعيد نؤكد كلام شيخ الإسلام ابن تيمية بأن الصحيح الراجح أن التورق حرام، ويفتح باباً عظيماً من أبواب الربا.
فهذه الصور كلها تتعلق بهذه القاعدة العظيمة -أي: قاعدة: في العقود بالمقاصد المعاني لا بالإلفاظ المباني- التي هي فرع عن قاعدة: الأمور بمقاصدها.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.