أما النوع الثاني من خلاف التنوع فهو: خلاف الراجح والمرجوح: وهذا تكون فيه المناصحة، فلا بد أن يكون الحق هنا مع واحد من الاثنين؛ لأن الحق لا يتعدد خلافاً لمن قال بأنه يمكن أن يكون الحق مع كل مفتٍ، فهذا خطأ فاحش، بل الحق واحد عند الله لا يتعدد، كما قال الله تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} [يونس:32].
ولذلك اختلف العلماء في مسائل مهمة جداً، منها مسألة الشرب قائماً، فقد اختلف العلماء في الشرب قائماً، واختلفوا في مسألة استقبال القبلة عند الغائط, واختلفوا في الوضوء من لحم الجزور، اختلفوا في التسمية على الوضوء هل هي واجبة أو ليست واجبة، وهل هي شرط في صحة الوضوء أم ليست شرطاً في صحة الوضوء؟ فالحق مع واحد من الاثنين، فعلى طالب العلم الأريب الفقيه اللبيب أن يبحث عن القول الذي يلتزم بالدليل، ويصحح الدليل، ويعرف كيف يستنبط الحكم من الدليل.
فإن كان المرء يعلم كيف يفصل بين القولين فحيا هلاً به، فقد ارتقى مرتبة عالية, وإن لم يستطع أن يفرق بين القولين، فلا بد أن يلتزم بالعالم الذي علم منه أنه يتحرى السنة ويلتزم بها ويطلع كثيراً ولا يكف عن الطلب؛ لأن هذا يكون أوفر حظاً في التوفيق من غيره, فهذا النوع من الخلاف وإن كان خلاف تنوع، لكنه فيه راجح ومرجوح.
وكذلك مسألة الزواج من المرأة الكبيرة البكر دون ولي، فهل لها أن تزوج نفسها أم لا؟ وهذا الخلاف خلاف معتبر، والخلاف المعتبر لازمه أن يترك المرجوح ويؤخذ الراجح.
والخلاف المعتبر لا إنكار فيه، وإنما فيه التناصح فقط، والمناظرة تناصح كما وقع بين الشافعي وأحمد في مسألة تكفير تارك الصلاة، وعلماء الشام لا يقولون بتكفير تارك الصلاة، وعلماء الحجاز يقولون بتكفير تارك الصلاة، وهذا الخلاف لا يفسد للود قضية، وهو خلاف معتبر.
ولما دخل الشافعي على أحمد -إن صحت القصة- فقال له يا أحمد: ماذا تقول في رجل لا يصلي؟ قال: كافر.
قال كيف يدخل الإسلام، قال: يقول: لا إله إلا الله.
فقال لـ أحمد: أرأيت إن كان يقول لا إله إلا الله! فأخذ أحمد حذاءه وذهب.
ومعناه أنه قبل كلام الشافعي، بل لعله خشي أن يصل النقاش إلى الجدال.
ولم ينكر الشافعي على أحمد، فـ الشافعي هنا يناصح ويناظر الإمام أحمد، والحق مع واحد من الاثنين, فالخلاف المعتبر فيه المناصحة والمناظرة، وليس فيه الإنكار، وهو لا يفسد للود قضية.
فإن قيل: أنتم تقولون: إن الحق واحد، وإن الخلاف المعتبر فيه التناصح لا الإنكار، فما دليلكم؟ ف
صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} [يونس:32].
وقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما بعث سرية وقال لأصحابه: (لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة)، فقال قوم: أمرنا الرسول أن لا نصلي إلا في بني قريظة، وقال قوم: لا والله إنما أمر الرسول أن نحافظ على صلاة العصر فلا يخرج وقتها.
فصلى أناس في الطريق، وأناس تمسكوا بظاهر أمر النبي وصلوا في بني قريظة، فلما قصوا على النبي صلى الله عليه وسلم القصة أقر الفريقين.
فهذا دليل على أن الحق متعدد، فهو مع الطائفة التي صلت في بني قريظة، وهو أيضاً مع الطائفة التي صلت قبل أن تصل إلى بني قريظة، ونحن قلنا: إن الحق واحد، فما هو حل الإشكال الظاهر هنا؟ الجواب على ذلك: أن إقرار النبي هنا لم يكن إقراراً على أن الحق متعدد، بل هو إقرار على أن كل طائفة لها أجر، وهذا هو محل النزاع.
فإقرار النبي كان على اجتهادهم، فلم ينكر اجتهاد هذه الطائفة ولا تلك الطائفة، وليس فيه إقرار على أن الحق متعدد، بل الحق مع الذين صلوا في بني قريظة؛ لأنهم عملوا بظاهر أمر النبي صلى الله عليه وسلم, وأما الذين اجتهدوا بالاستنباط وقالوا: إن أمر النبي له معنى وحكمة، وهو تعجيل الخروج، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أقرهم على اجتهادهم لا على أن الحق معهم، وكل مجتهد من الطائفتين مصيب للأجر، هذا هو الراجح في الرد على هذا الإيراد.
إذاً: خلاف تنوع لا يكون فيه الإنكار، بل فيه المناصحة والمناظرة، وهو لا يفسد للود قضية.