الأدلة على قاعدة سد الذرائع

ودليل هذه القاعدة العظيمة من الكتاب ومن السنة: قال الله تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108].

لا تسبوا الذين يدعون من دون الله والآلهة التي اتخذوها من صنم وحجر وشجر وقمر وشمس، فإن الله جل في علاه منع المسلمين من سب هذه الأشياء، مع أنك لو نظرت لوجدت أن الشرع يرغب في ذلك ويحث عليه، بل هو في بعض الأحايين يكون من الوجوب بمكان، لكن لما كانت المسبة وسيلة إلى مفسدة أعظم منعها الله جل في علاه.

ولذلك حسم الله المادة ومنع هذه الوسيلة، وقال: ((لا تسبوا الذين يدعون من دون الله))؛ لأن أتباع الآلهة ينتقمون ممن يسب هذه الآلهة بسب الله.

كذلك قول الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا} [البقرة:104]؛ لأن اليهود كانوا إذا تكلموا مع النبي صلى الله عليه وسلم -بأبي هو وأمي- يتكلمون بلحن القول ويقولون: راعنا، ويقصدون الرعونة، فيسبون النبي صلى الله عليه وسلم، فمنع الله المسلمين عن هذه الكلمة مع أن التشابه كان في القول فقط مع الاختلاف والافتراق في المقصد، لأن المسلمين لا يقصدون سب النبي صلى الله عليه وسلم.

فلما تشابهت الأقوال وخشي أن تجر المشابهة في الظاهر إلى المشابهة في الباطن منعها الله جل في علاه.

ونظر ابن القيم لهذه الذريعة من وجهة أخرى، قال: وأيضا هي هذه ذريعة ووسيلة إلى أن اليهود يقولون: نفعل مثل ما يفعل المسلمون ومثل ما قال المسلمون، وتكون ذريعة لهم، ليستبيحوا هذا الكلام على النبي صلى الله عليه وسلم.

والدليل الثالث: قول الله تعالى: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور:31].

فإن الله جل في علاه منع المرأة أن تضرب بالأرجل حتى لا يسمع الرجال صوت الخلخال فيفتنوا بهذه المرأة، وإن كان الأمر مباحاً ليس محرماً وليس بعورة؛ لكن هو يدل على العورات الخفية، فلما كان وسيلة لفتنة الرجال بالنساء منع منه الله.

والدليل من السنة: حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال: (لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه ولا يبع على بيع أخيه).

نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الخطبة مع أن الأصل فيها الإباحة؛ لأنها تؤدي إلى مفسدة عظيمة؛ ولأن الأصل في التشريع المودة والتلطف والتواد والتحابب بين المسلمين، فلما كانت هذه الخطبة وسيلة إلى نشر البغضاء والتحاسد والحقد بين أفراد المجتمع منع الله هذه الوسيلة حفاظاً على قلوب المسلمين.

ومن هذه الأدلة التي يستدل بها العلماء على هذه القاعدة العظيمة الإجماع السكوتي على مسألة قتل الجماعة إذا تكالبوا وقتلوا واحداً.

فالقصاص من رجل لرجل، أما من الجماعة لرجل واحد فلا دليل على أن يقتلوا جميعاً، فلما عرضت المسألة على عمر رضي الله عنه وأرضاه فقال: لو تكالب عليه أهل صنعاء لقتلتهم به، وهذا فيه إجماع سكوتي، فاستنبط العلماء من ذلك دليلاً على سد الذريعة فقالوا: إننا لو رفضنا فلم نقتل أحداً منهم وقبلنا الدية لهذا المقتول؛ لتكالب كل جماعة يحقدون على أحد من أفراد المجتمع فيقتلونه ويدفعون الدية مقابل هذا الدم.

فسداً للذريعة وحفظاً للدماء قال عمر رضي الله عنه وأرضاه مقولته المذكورة، وما خالف عمر في هذه القضية أحد، فأصبح ذلك إجماعاً سكوتياً، واستدل به العلماء على هذه القاعدة العظيمة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015