إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
الإخوة الكرام! نفتتح اليوم بإذن الله كتاب القواعد الفقهية لفضيلة الشيخ/ محمد بن بكر بن إسماعيل، ثم نتكلم عن أحكام المواريث، فنقسم الدرس بين القواعد الفقهية، وبين مهمات في أحكام المواريث.
انتهينا من المقدمة والكلام على القواعد الفقهية وأهميتها، وأنه لا يمكن أن تجد فقيهاً متقناً لعلم الفقه بدون أصول الفقه، وبدون القواعد الفقهية، إلا أن يكون صانعاً لها والفرق بينهما يبينه إتقان الأصول والقواعد، والتي تجعل من الرجل صانعاً للخفاف أو بائعاً لها.
وقد فرقنا بينهما، وهذا التفريق ليس منا، بل من فحل من فحول الفقه وهو ابن رشد في بداية المجتهد، فهناك فارق بعيد بين المقلد الذي هو بائع الخفاف وبين المجتهد الذي هو صانع الخفاف، فقد نجد من ينتسب إلى الفقه الشافعي مثلاً فيحفظ كل فروعه، وتسأله في مسألة منه فإذا هو كالسيل الجرار، أما إذا سألته في مسألة مستحدثة؛ لأنه لا يدرس العلوم أو ليس بفقيه بحق فلا يستطيع الجواب، ويضرب أخماساً بأسداس؛ ولذلك صانع الخفاف: هو الذي يضبط المسائل، وإذا أتاه فرع لم يقرأه يرد الفرع على الأصل، وهذا مصداقاً لقول الإمام مالك: ليس العلم بكثرة المسائل، ولكن العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء.
نبدأ إن شاء الله بأول قاعدة، وهي أهم القواعد وهي: الأمور بمقاصدها، وأغلب هذه القواعد أدلتها من الكتاب والسنة.
وأدلة هذه القاعدة كما يلي: أولاً: ما في الصحيحين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما الأعمال بالنيات)، و (إنما) أسلوب حصر أي: قبول الأعمال بالنيات صحة أو بطلاناً، ومن أساليب الحصر: ثم وإن وإلا، وتقديم ماحقه التأخير، أو تأخير ما حقه التقديم، مثل قوله تعالى: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5].
أي: نعبدك أنت وحدك أو نعبد إياك، فقدم المفعول على الفعل والفاعل، وإياك نستعين: فيها نفس المعنى.
ومن أساليب الحصر: النفي والإثبات، مثل: لا إله إلا الله.
ومعنى أسلوب الحصر: أن الحكم لا يتواجد إلا فيما ذكر، ويخرج كل ما كان غير هذا الذي ذكر.
فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الأعمال بالنيات)، والتقدير: قبول الأعمال وصحتها مرتبط بالنيات، فهذا أول دليل لهذه القاعدة العظيمة التي تشمل فروعاً كثيرة.
وفي الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه قال: (لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية)، فقال في الجهاد -الذي هو عمل الجوارح- إنه لا بد أن يقترن بنية وفي الحديث الذي يذكر الجيش الذي يخسف بأوله وآخره، قالت عائشة يا رسول الله! إن فيهم أسواقهم ومن ليس منهم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يخسف بهم ثم يبعثون على نياتهم)، فذكر أصل الأصول وهو النية.
وهناك أحاديث فيها ضعف، ولكن يستأنس بها مع هذه الثوابت، منها: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (نية المؤمن خير من عمله).
ومنها: ما جاء في النسائي والدارمي بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم: (جاءه رجل فقال: يا رسول الله! أرأيت الرجل يقاتل شجاعة، يقاتل حمية، ويقاتل من أجل غنيمة، ما له؟ قال: لا شيء له، ثم ذكر له السؤال مرة ثانية فقال: لا شيء له، ثم ثالثة فقال: لا شيء له، إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان صالحاً وابتغي به وجهه) ابتغاء وجه الله، وهذا أصل النية.
ومنها: ما جاء في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لـ سعد: (إنك لن تنفق نفقة تبتغي -هذا وجه الشاهد- بها وجه الله إلا أجرت عليها)، أي ما أنفقت نفقة صغيرة ولا كبيرة.