المقدم: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده سيدنا ونبينا محمد وعلى آله.
أيها الأحبة: القرآن الكريم هو حجة الرسول وآيته الكبرى، يقوم في فم الدنيا شاهداً برسالته وناطقاً بنبوته، ودليلاً على صدقه وأمانته، وهو ملاذ الدين الأعلى، وعماد لغة العرب الأسمى، تدين له اللغة في بقائها وسلامتها، وتستمد علومها منه على تنوعها وكثرتها.
هو القوة التي غيرت صورة العالم، وحولت مجرى التاريخ، وأنقذت الإنسانية العاثرة؛ لذلك كله كان القرآن الكريم موضع العناية الكبرى من الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته ومن سلف الأمة وخلفها جميعاً.
وقد اتخذت هذه العناية أشكالاً مختلفة فتارة: ترجع إلى لفظه وأدائه، وأخرى: إلى أسلوبه وإعجازه، وثالثةً: إلى كتابته ورسمه، ورابعةً: إلى تفسيره وشرحه إلى غير ذلك.
في هذه الحلقة سيكون لنا بإذن الله عز وجل مزيد عناية بأمر له في القلوب أحسن موقع وأعذب مذاق، سأتحدث مع ضيفنا الكريم عن (التقديم والتأخير في كلام العلي الكبير).
وأستهل لقاءنا بهذا المحور، وهو إطلالة سريعة عن موضوع التقديم والتأخير في كلام الله عز وجل.
الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ، والصلاة والسلام على إمام المتقين وقائد الغر المحجلين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: أولاً: أهنئ من يسمعنا ويشاهدنا بعيد الفطر المبارك، سائلين الله جل وعلا أن يجعله علينا أهل الإسلام عيد خير وبركة.
ثم إننا نقول: إنه كلما كان الإنسان قريباً دانياً من كلام الله جل وعلا فهذا شرف عظيم، وموئل كريم لا يعطى لكل أحد.
ولعل من الفأل الحسن أن البرنامج غير موعده إلى ثاني اثنين من كل شهر، فيكون قريباً من قول الله جل وعلا: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} [التوبة:40] وإن كان هناك في الذوات وهنا في الأيام، لكن أي قرب من القرآن أمر محمود.
ثم أقول: هذا القرآن هو معجزة نبينا الخالدة صلوات الله وسلامه عليه: جاء النبيون بالآيات فانصرمت وجئتنا بحكيم غير منصرم آياته كلما طال المدى جدد يزينهن جلال العتق والقدم والتقديم والتأخير يأخذ طرائق متعددة في كلام الله جل وعلا، لكنني سأشرع في بيان مجملها: أحياناً يكون التقديم فيه نوع من التسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يكون في تقديم الخطاب.
الله جل وعلا وحده يعلم الغيب، فأذن لنبيه أن يتوجه إلى بيت المقدس عندما كان في مكة، فلما هاجر إلى المدينة مكث فيها ستة عشر شهراً يصلي إلى بيت المقدس، ثم نسخ ذلك وقد نزل قبل آية النسخ قول الله جل وعلا: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة:142].
فهذا تقديم، بمعنى: أنه توطئة لأمر وردة فعل ستقع من الناس، ففي هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم.
ثم قال الله بعدها بآية: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:144].
فقول الله: (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) ناسخ لتولية المسلمين وجوههم نحو بيت المقدس، فالتقديم هنا للتسلية.
ومثال التأخير: كانت بدر أول معركة خاضها المسلمون، ولم يكن لهم عهد بتقسيم الغنائم فلما حازوا الغنائم حصل شيء من النزاع فأخذوا يتساءلون، فذهبوا للنبي صلى الله عليه وسلم وسألوه، قال الله جل وعلا: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ} [الأنفال:1] لكن الجواب عن سؤالهم تأخر، وقدم ما لم يعن المسلمون به آنذاك وهي قضية إصلاح ذات البين، فأنزل الله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:1].
ثم بعد ذلك قال الله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال:41] فبين كيفية تصريف الأنفال، فهذا نوع من التقديم والتأخير.
أحياناً يكون التقديم والتأخير في العامل والمعمول، ذكر الله جل وعلا على لسان آسية بنت مزاحم امرأة فرعون أنها قالت: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} [التحريم:11] فقدم الجار والمجرور على المفعول به على خلاف الترتيب لغرض، وهو أنها اختارت جوار الله قبل أن تختار الدار، وقد بين في أكثر من موضع أن هذا من دلالة شوقها إلى ربها جل وعلا وأدبها في مخاطبة الرب تبارك وتعالى.
أحياناً يأتي الترتيب ظاهراً بيناً، يقول الله جل وعلا: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [النساء:13] فتقديم الله على رسوله أمر واضح.
وأحياناً يكون لأجل التشريع، يقول الله جل وعلا: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة:158] فالنبي عليه الصلاة والسلام رقا الصفا وقال: (أبدأ بما بدأ الله به وتلا: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ)).
من هنا نفهم أن التقديم في كلام الله جل وعلا لا بد له من حكمة قد نفقهها وقد لا نفقهها وهذا مضمار تجري فيه أقدام العلماء ما بين مكثر من الصواب ومقل، وهذا هو العلم الحق.
هذا نوع من التمهيد والتوطئة لحلقة هذا اليوم: (التقديم والتأخير في كلام العلي الكبير جل جلاله).