الأمر الثاني: أنه قد يغلب الرجل الكامل الذي يقارع الأبطال مثل علي، ومن قرأ التاريخ يعرف شجاعة علي، ومع ذلك فالإنسان أحياناً يغلب، فهذا علي رابع الخلفاء، وحاتم الحنفاء رضي الله عنه وأرضاه يرى ناقتيه قد بقرتا، وجبت خواصرهما، ويقول لابنه راوي الحديث، والابن يقول لابنه -يعني: لحفيد علي - يقول: فلم أملك أن دمعت عيناي، فالإنسان الذي يريد أن يربي من تحته لا يأتي يمنع الناس من أشياء جبلية، فالآن بعض الرجال لو رأى ابنه بكى عيره وشتمه، ويقول: اغسل يدك منه، وهذا كله كلام متكلف، فلا يمكن لأحد أن يخرج عن بشريته، فـ علي رضي الله عنه تعالى وأرضاه فعل الأفاعيل في أهل الكفر، ومع ذلك لما رأى شيئاً عزيزاً عليه قد بقر غلبته عيناه، وقد قال بعض الشراح: إن الذي أضر به أن عمه هو الذي بقر الشارفين، لكن هذا غير صحيح؛ لأن علياً ذكر في الحديث أنه بكى ودمعت عيناه قبل أن يعرف، قال: فسألت: من فعل هذا؟ قالوا: حمزة، وهذا بعد أن ذكر أن عينيه قد دمعتا.
ثم ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فالإنسان إذا عجز عن الشيء فإنه يذهب إلى من يقدر عليه، فـ علي رضي الله عنه لما علم أن الذي صنع هذا هو عمه حمزة -فـ حمزة أخو أبي طالب - توقف، لكنه سأل: أين هو؟ قالوا: في شرب له في دور الأنصار، فحرر المكان ثم ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره.
والنبي عليه الصلاة والسلام سيدخل على قوم سكارى، ومع ذلك أخذ رداءه، فالإنسان المنظور إليه يتجمل في اللباس، والمسجد هو أعظم مكان يمكن أن يدخله، قال الله: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31] أي: عند كل صلاة، فالإنسان لا يحسن به أن يذهب إلى الصلاة بلباس النوم، وإذا جئت تنصح بعض الناس قال: يا أخي احمد الله أني أصلي! الحمد لله على كل حال ونعوذ بالله من أهل النار، لكن هذا ليس حقاً، فينبغي للإنسان أن يأتي للصلاة في أجمل شيء، فإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام أخذ رداءً وهو نبي الأمة وليس مظنة للتهمة، وذهب إلى قوم سكارى؛ ليلومهم وليثرب عليهم، ومع ذلك يتجمل عليه الصلاة والسلام، فلكل حال لبوس.
يقول علي رضي الله عنه وأرضاه: فخرج فتبعته أنا وزيد، وزيد هو ابن حارثة، وهذا الكلام كله في أول الدعوة، أي: قبل أحد وبعد بدر مباشرة، أي: في أول السنة الثانية في شوال، فذهب صلى الله عليه وسلم فاستأذن فأذن له، فلما دخل على حمزة أخذ يعاتب حمزة ويلومه، وحمزة ثمل، أي: أن الخمر قد بلغت منه مبلغاً عظيماً، فأخذ ينظر في الأول في الأسفل، ثم صعد النظر حتى وصل إلى رؤية وجه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال -وهذا مما يدلل على أن الخمر قد بلغت مبلغاً-: وهل أنتم -يخاطبهم الثلاثة- إلا عبيد لأبي! وهذه العبارة فهم منها النبي صلى الله عليه وسلم أن حمزة قد ثمل، فلما قالها أراد النبي أن يعلم الأمة هنا بالفعل لا بالقول، فرجع القهقرى، أي: رجع يمشي إلى وراءه وبصره باق في حمزة؛ لأنه يخشى لو أنه أعطى ظهره لـ حمزة أن يطمع فيه حمزة وهو ثمل فيضربه أو يطعنه أو يقع منه شيء، فالعاقل لا يمكن خصمه من نفسه، وهذا مع اختلاف الوضع؛ لأن حمزة ليس عدواً، لكنه وقتها لا يكاد يدري ما يفعل، فمسألة المغامرات هذه عندما تكون فرداً وأنت تحسبها حساباً دقيقاً، وأما أن يأتي إنسان يوكل إليه أمر جماعة أو أمر مدرسة أو أمر طلاب أو أمر دولة أو أمر إمرة ثم يأتي يمكن عدوة من نفسه، فهذا ليس من الحكمة، فالنبي صلى الله عليه وسلم محفوظ بحفظ الله له: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67]، ومع ذلك رجع القهقرى؛ حتى لا يجعل لـ حمزة طريقاً إليه، ولو وقع من حمزة شيء وهو ثمل فإنه يستطيع صلى الله عليه وسلم أن يرده.
وأحياناً لا يكون هناك نفع من الخطاب، فلما رأى النبي عليه الصلاة والسلام أن حمزة ثمل، فلا وقت للمعالجة، خرج هو وزيد وعلي رضي الله تعالى عليهما، والمقصود أن الإنسان كذلك يتوخى متى يعالج، وليس شرطاً أن تعالج المشكلة في وقتها، فالمهم أن تعالج المشكلة في وقت يغلب على الظن أنه ينفع، فكم من أمور إذا أرجئت يكون الحل في إرجائها.