القطوف الدانيه (صفحة 285)

الوسائل المعينة على فهم القرآن

المقدم: الجميع يرغب أن يتدبر معاني القرآن، وقد انتشرت في الفضائيات العربية ظاهرة تفسير القرآن والتدبر، وأن الناس في ذلك ما بين مجتهد مصيب ومخطئ إلى آخره، لكن كيف نستطيع أن نمتلك آليات وأدوات فهم القرآن والتدبر، وتطبيقه في حياتنا، نأخذ منك تأصيلاً علمياً في فهم وتدبر الآيات! الشيخ: فهم القرآن العظيم وتدبر آياته، والاستضاءة بنوره مقصد شرعي عظيم، تطمح إليه كل نفس مؤمنة، وفضل الله واسع، لكن لما كان القرآن بهذه العظمة كان لابد أن يكون هناك مرحلة كبرى جداً للوصول إلى تدبر القرآن، وتدبر القرآن مقصود: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء:82].

وأعظم تلك المفاتيح يمكن إجمالها في أربع طرائق تعين على تدبر القرآن، أذكرها إجمالاً ثم أفصل: الأول: الابتعاد عن حطام الدنيا.

الثاني: العلم بلغة العرب.

الثالث: التتبع والسير على منهج سلف الأمة.

الرابع: فهم مقاصد القرآن.

هذا من حيث الإجمال.

أما من حيث التفصيل فنقول: الأول: قال سفيان الثوري رحمة الله عليه: لا يجتمع فهم القرآن في قلب اشتغل بحطام الدنيا أبداً.

فلا يمكن أن يجتمع حطام الدنيا مع فهم القرآن، هذا محال، فالاشتغال بحطام الدنيا أمر مهما قال الإنسان فيه إلا أنه ينجم عنه بعد عن تدبر نور القرآن.

نحن لا نقول: إن كل من اشتغل بحطام الدنيا يحرم من فهم القرآن بالكلية، لأن هذا كلام عائم يؤخذ منه ويرد، لكن من تدبر حال الناس وجد أنه كلما كان الإنسان مشتغلاً بحطام الدنيا أكثر كان أشد انصرافاً عن فهم كلام الله جل وعلا.

والله جل وعلا قال لنبيه: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ * لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} [الحجر:87 - 88] فبين الله جل وعلا أن حظك من القرآن أيها النبي الكريم يغنيك عن النظر إلى متاع الدنيا.

وهذا هو الحق الذي لا مرية فيه، فعلى هذا فإن تدبر القرآن يوفق له عبد أحجم بنفسه عن جمع حطام الدنيا، ونحن نرى هذا في أنفسنا، كلما شغلنا بشيء من حطام الدنيا نجمعه قل تدبرنا وفهمنا للآيات.

أما الجمع على سبيل جمع المعيشة ولأجل أن يعف نفسه فلا يقال له حطام الدنيا، لأن هذا من المطالب الرئيسة التي لابد منها لإطعام النفس والولد ومن يعول، وهذا لابد منه، لكن المقصود الانغماس فيها والانشغال القلبي، بحيث إن الإنسان يبيت ويصبح ويمسي وهو يحسبها بالدينار والدرهم، والله جل وعلا قال لنبيه في سورة طه: {نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132] بعد أن أمره بالصلاة، قال: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132].

والله جل وعلا تكفل لعباده بالرزق، وأمرهم بالعبادة له، فمن الخطأ العظيم أن ينشغل الإنسان بالرزق ويترك العبادة، فينشغل عما أمر به بشيء تكفل الله به، والله يقول: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6]، وقال جل وعلا: {وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} [العنكبوت:60]، فهذا يراه الإنسان في نفسه، وليس هناك أحد معصوم، لكن الانشغال بها يحجبك عن الفهم.

لكن لا يفهم منه أن هذا الشرط يؤخذ بمعزل، فيأتي إنسان بكل أحد زاهد ويقول: هذا متدبر للقرآن، فهذا من جملة شروط لا تتوافر فيها جميعاً.

الأمر الثاني: العلم بلغة العرب.

قال مجاهد بن جبر المكي: لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقول في كلام الله حرفاً إلا أن يكون عالماً بلغة العرب.

وقال مالك رحمه الله: لا أوتى بأحد يقول في القرآن وهو غير عالم بلغة العرب إلا جعلته نكالاً.

وهذا أصل دل عليه القرآن؛ لأن الله قال: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:195]، فمن لم يفقه لغة العرب لا يحل له أن يقدم على أن يقول في القرآن، لأنه يفقد آلة عظيمة في فهم القرآن، وهي العلم بلغة العرب.

من الأمثلة الواقعية على هذا ما ذكره الأئمة الكبار من قبل أن الله قال لنبيه نوح في القرآن: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ} [هود:40]، فاختلفوا في معنى (التنور)، فمن العلماء من قال: إن التنور من تنور الصبح إذا أضاء، ومنهم من قال: إن التنور إذا انبجس الماء، ومنهم من قال: إن التنور أشرف الأرض وأعلاها، ومنهم من قال: إن التنور المخبز المعروف، ومعلوم في لغة العرب أنه إذا قيل (التنور) إنما ينصرف إلى الموقد الذي يتخبز فيه.

فعلى هذا قال الطبري رحمه الله وهو إمام المفسرين المشهور: فيجب هنا صرف كلام الله إلى المشهور من لغة العرب، ولا يوجه الكلام إلا للأشهر والمتعارف عليه من لغة العرب؛ لأن الله قال: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:195].

إذاً: هذا ثاني الشرائط، وهو العلم بلغة العرب.

وقبل أن ندخل في الشرط الثالث نتساءل: ما هي حدود امتلاك الإنسان لفهم اللغة العربية، هل هناك خطوط عامة بحيث إذا استطاع أن يسيطر عليها فهم الكلام العربي؟ يفهم من النحو قواعده الإجمالية، صحيح أن هناك مسائل اختلف فيها الأئمة الكبار كنحاة البصرة ونحاة الكوفة، لكنها ليست مطلوبة، لكن الإجمال والإحاطة العامة ومعرفة مظان الاختلاف أمر مطلوب.

العلم بلغة العرب وبأساليب العرب في كلامهم، لا يتأتى إلا إذا كان الإنسان قد اطلع على شعر العرب، قال عمر رضي الله عنه: الشعر ديوان العرب، فالاطلاع على المعلقات والشعر في صدر الإسلام وفي زمن الاحتجاج خاصة أمر مطلوب، حتى يعرف الإنسان طرائق العرب في كلامها، فعلى ذلك يفسر القرآن، ولذلك كان ابن عباس إذا قال في المسألة قولاً يسأله الناس: أوتعرف العرب هذا؟ فيقول: نعم، ثم يأتي بشاهد يدل على أن العرب تعرف هذا المقصد في كلامها.

وزمن الاحتجاج استمر إلى عام (120هـ) تقريباً، قبل نهاية الدولة الأموية بعشر سنين تقريباً.

الأمر الثالث: الاهتداء بمذهب السلف الصالح، والسؤال الأول: من هم السلف الصالح؟ السلف الصالح صحابة النبي صلى الله عليه وسلم رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، وأعيان التابعين لهم بإحسان، والأئمة العدول ممن ساروا على منهجهم إلى يومنا هذا وإلى أن تقوم الساعة، وبالنسبة لكل أحد فإن من مضى قبله من الأئمة العدول سلف له، لكن ينطبق على أهل القرون المفضلة في المقام الأول، فمنهج الصحابة وأعيان التابعين لهم بإحسان هو الذي ينصرف إليه قولنا وقول الأئمة: السلف الصالح ومن تبعهم بإحسان.

هؤلاء الأئمة رضوان الله تعالى عليهم لابد للإنسان أن يسير على منهجهم حتى يتدبر القرآن.

ومن سمات منهج السلف الصالح: الأول منها: أنهم يقدمون النقل على العقل في تفسير القرآن عامة، وفي نصوص الأسماء والصفات خاصة.

الأمر الثاني من سمات منهجهم رحمة الله تعالى عليهم: أنهم يجمعون بين القرآن والسنة.

الثالث: من سمات منهج السلف الصالح: رفض ما دونه الفلاسفة والمتكلمون في الأسماء والصفات خاصة.

الرابع: أنهم ينبذون التقليد الأعمى، ولا يتعصبون لمذهب بعينه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله تعالى عليه وهو يصف بعض سماتهم: وليس لهم متبوع إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم -أي الصحابة- أعلم الناس بأحواله وأقواله وأعرف الناس بأحاديثه صحيحها وسقيمها رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.

فالسير على منهجهم وفق هذه الخطوط وغيرها من طرائق معرفة النصوص تعين على فهم القرآن.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015