بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أحسن كل شيء خلقه، وبدأ خلق الإنسان من طين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فأولاً: من نعم الله علينا جميعاً أن وفقنا لأن نتدبر بعض آيات كتابه، فهذا مطلب عظيم، وموئل كريم، ومنزلة جليلة، فإذا كان هذا التدبر والتدارس يتم في مسجد مبارك -كمسجد قباء- فهذا أعظم منزلة وأرفع درجة، نسأل الله أن يخلص النيات.
أما هذا المسجد فهو مسجد قباء، وقباء في الأصل مكان عرف بهذا الاسم (قباء) لأنها كانت بئراً، ثم عرفت المنطقة باسم البئر فسميت بقُباء، وهذا هو النطق الصحيح لها (بضم القاف).
يقال فيه مسجد قباء، وهي تسمية قرآنية: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى} [التوبة:108] أي: مسجد قباء، وقال: مسجد بني زريق، كما ورد في الأحاديث.
نقول: جرت عادة الناس أنهم يتبعون أوائلهم، والنبي صلى الله عليه وسلم أذن لأصحابه بالهجرة، فالمهاجرون الأولون قدر لهم أن ينزلوا ابتداء في هذه المنطقة المعروفة قديماً بقباء.
كانت هناك داران في قبلة المسجد الآن -وقبلة المسجد جنوبية- دار كلثوم بن الهدم رضي الله عنه، ودار سعد بن خيثمة، وكان سعد أعزباً.
وهذه الديار كانت لبني عمرو بن عوف، وجهة الشمال -جهة مسجد الجمعة- كانت ديار بني سالم بن عوف، فمن هاجر من أوائل الصحابة نزل هنا، فكان بدهياً عندما يأتي صلى الله عليه وسلم أن ينزل في نفس المكان الذي نزل قبله به أصحابه رضوان الله تعالى عليهم.
والنبي صلى الله عليه وسلم على المشهور دخل قباء لثمان خلون من شهر ربيع الأول على غير رواية ابن إسحاق، والأظهر عندنا والعلم عند الله أنه صلى الله عليه وسلم ولد لتسع خلون من ربيع الأول، فيكون دخوله قد تم في يوم الإثنين الثامن من ربيع الأول للسنة الأولى من الهجرة، فهو ابن ثلاثة وخمسين عاماً بالتمام، فالقول الراجح عندنا أنه ولد في التاسع من ربيع الأول، ودخل المدينة في الثامن من ربيع الأول.
لما نزل صلى الله عليه وسلم كان معه أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فاستضافه كلثوم بن الهدم، ثم كان صلى الله عليه وسلم يستقبل الناس في دار سعد بن خيثمة، من هنا جاء الاضطراب في الروايات التاريخية هل نزل في دار كلثوم أو في دار سعد بن خيثمة.
ثم أسس صلى الله عليه وسلم هذا المسجد المبارك لبني عمرو بن عوف.
والصحابة لما هاجروا لم يؤسسوا مسجداً؛ لأنهم ما أرادوا أن يتقدموا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فمثل هذه الأمور تسند للإمام الأعظم.
ومن هذه السجادة تقريباً إلى محراب المسجد من توسعة عثمان رضي الله عنه وأرضاه، فإن عثمان رضي الله تعالى عنه وسع في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم توسعة جنوبية، قال بعض أهل التاريخ والسير: إنه كذلك وسع في مسجد قباء توسعة جنوبية، أي: إلى جهة القبلة، فالمسجد النبوي المؤسس أنا لا أستطيع أن أحدده، فلنقل: إنه إلى هذا العمود أو الخط.
وكانت قبلته جهة الشام؛ لأن القبلة لم تكن قد حولت بعد، فكانت القبلة جهة الشام أي: جهة بيت المقدس، ثم لما نزل قول الله: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:144] جاء التحويل إلى القبلة الجنوبية.
وقلنا: هذه ديار بني عمرو بن عوف، وديار بني سالم بني عوف كانت في جهة الشمال، فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من هاهنا ومضى أدركته الجمعة في مسجد الجمعة الآن، فصلى بها الجمعة كأول جمعة تقام في الإسلام، وذلك بعد ما أسس المسجد، وقد مكث في المسجد الإثنين والثلاثاء والأربعاء، ووضع أول لبنة، بدأ، فتبعه أبو بكر ثم تبعه عمر، ثم سائر الناس حتى بني المسجد، وكانوا ربما أنشدوا.
قد أفلح من يعالج المساجدا ويذكر القرآن قائماً وقاعداً إلى غيره، وينسب هذا إلى علي رضي الله عنه، وينسب إلى عبد الله بن رواحة، وينسب إلى غيرهما، ويقال: هو من حفظهما، وهذا كله أمر واسع، ولا تثريب فيه.
ذكرنا أن هذا المسجد أسسه النبي صلى الله عليه وسلم من أول يوم، والآية جاءت منقطعة الإضافة، فالله يقول: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} [التوبة:108]، فجاء القرآن بكلمة (يوم) منونة، والتنوين هنا لا خلاف أنه تنوين عوضي، لكن ما اللفظة المحذوفة؟ هذا مختلف فيه، فإذا قلنا: التقدير: (من أول يوم نزلت فيه) مسجد قباء بالاتفاق.
وقيل إن التقدير: (من أول يوم أظهر الله فيه دينه)، وهذا قال به بعض العلماء، وهو الذي اختاره السهيلي في الروض الأنف، وعليه يفهم إنه عندما أسس مسجد قباء أمن الناس، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقدر على أن يؤسس مسجداً في مكة، لكن لما عزم صلى الله عليه وسلم على أن يؤسس مسجداً في المدينة دل ذلك على أن الله أعز الإسلام وأمن الناس، فهذا أول يوم أعز الله فيه الدين إعزازاً ظاهراً.
ومن هنا يعلم القارئ للتاريخ فقه الصحابة رضي الله عنهم في أنهم جعلوا التاريخ يبدأ بالهجرة، لعلمهم رضي الله عنهم وأرضاهم أن الهجرة كانت فارقاً عظيماً، وبها ظهر إعزاز الدين وانتصاره، وكان ما كان من علو شأن الإسلام.