الملقي: هناك عنصر مهم قصدنا أن يؤخر إلى آخر الحلقة، وهو الوفاء مع الله عز وجل، البعض قد يستغرب من المحور يقول: كيف أكون وفياً مع الله عز وجل؟ الشيخ: يقول الله جل وعلا وهو أصدق القائلين: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} [يونس:12].
أعظم الأدب هو الأدب مع الله، وأعظم الوفاء ما كان مع الله، وقد جاء في الأثر أن الله جل وعلا قال في كتابه الكريم: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف:172 - 173].
جاء في الآثار أن الله جل وعلا كتب هذا العهد وألقمه الحجر؛ فلهذا ورد في حديث عبد الله بن السائب -وإن كان الحديث في سنده ضعف لكن أهل العلم على العمل به كما حرره ابن قدامة في المغني وغيره- أن الإنسان إذا طاف بالبيت يقول: اللهم إيماناً بك وتصديقاً بكتابك ووفاء بعهدك.
ويقول الله: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72]، لا يحمل الإنسان فوق ظهره ثقلاً أعظم من أنه أنيط به عبادة الله تبارك وتعالى، والله قال عن أهل الحسرة أنهم يقولون: {يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر:56].
فمن أدى الشرع على الوجه الأكمل والنحو الأتم كان قد عرف الوفاء مع ربه تبارك وتعالى الذي أوجده من العدم ورباه بالنعم وأكرمه بما أكرمه به، وتعبده بأن يعبده وحده دون سواه، قال الله جل وعلا مثنياً على خليله إبراهيم: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم:37]، قال قبلها: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة:124] أي: قام بهن على الوجه الأكمل والنحو الأتم.
والإنسان قلب يعتقد وجوارح تعمل على ذلك الاعتقاد، فإذا خلي بين الإنسان وبين قبره جاء الذين أودعوه القبر فحلوا عنه أربطة الكفن، فإذا حلت أربطة الكفن ووضع التراب على ذلك القبر رأى الإنسان بعد أن يسأله الملكان عمله، فإن كان ذلك العمل عملاً صالحاً رآه في هيئة حسنة يبشره برحمة من الله ورضوان، وإن كان غير ذلك -عياذاً بالله- رآه في هيئة سيئة يبشره بعذاب من الله جل وعلا وخذلان.
ثم إن تلك الجوارح تقوم بين يدي الله، فيقول أهل الإشراك يوم القيامة: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23]، فيقسمون بالله في ذلك الموطن أنهم ما كانوا أهل إشراك، فيختم الله على ألسنتهم، لأنهم كما قال صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم: (إن الرجل منهم يقول: يا رب لا أقبل شاهداً على نفسي إلا من نفسي، فإذا قال ذلك ختم على لسانه).
تلك الجوارح كانت تعينه في الدنيا على معصية الله، فإذا رأت جلال الموقف وهيبة الوقوف بين يدي رب العالمين جل جلاله، فهي أول من يتنكر له ويتخلى عنه، فتنطق جوارحه بما كانت تعمل، قال الله جل وعلا: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65].
وقد اختلف العلماء في السبب الذي من أجله ختم على تلك الأفواه فقيل: السبب أنهم يقولون: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23].
وقيل: إن شهادة من لا ينطق أعظم شهادة ما ينطق وهو اللسان.
وأياً كان تعليل العلماء فإن ذلك كله يدل على أن المرء لا ينبغي أن يحسن في الوفاء مع أحد كوفائه مع ربه تبارك وتعالى.
الله خلق الخلق وهو غني عنهم، وفي الحديث القدسي: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا.
يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم.
يا عبادي! كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم.
يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم.
يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم.
يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً.
يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً).
يتحرر من هذا الحديث القدسي أن الله غني عن طاعة الطائعين ولا تضره جل وعلا معصية العاصين، فأعظم ما يقوم به العبد الوفاء لربه.
ويكون الوفاء بأن يمتلئ القلب محبة لله جل وعلا وإجلالاً وتعظيماً له وإذعاناً، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165].
ثم الطمع في رحمته، وهذا من حسن الظن برب العالمين جل جلاله، ثم الخوف من عقابه تبارك وتعالى؛ قال الله عن الصالحين من عباده: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [السجدة:16]، ثم ذكر مآلهم: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17].
ثم محبة نبينا صلى الله عليه وسلم، والشهادة بأنه رسول حق أدى الأمانة وبلغ الرسالة ونصح الأمة، وقام بواجب الدين على أكمل وجه، وشهد له أصحابه، وستشهد أمته عليه الصلاة والسلام أنه أدى الأمر على أكمل وجه.
ومن محبته التأسي بخلقه والاقتداء بسيرته والاستنارة بما كان عليه عليه الصلاة والسلام من خلق جم وهدي قويم.
ثم بعد ذلك تأتي الأعمال لتترجم تلك المعتقدات، ومن صلح قلبه صلحت جوارحه واستقامت، فالغدو والرواح إلى المساجد وحضور الجمع والجماعات وفاء لأمر الله تبارك وتعالى وتلبية لندائه الذي شرعه لعباده.
صيام الهواجر والتقرب إلى الله جل وعلا بذلك الصيام سواء في رمضان وهو فرض أو في غيره من النوافل.
الحج والعمرة، وأداء زكاة المال، وبر الوالدين، والقيام بحقوق الجيران، وكثرة ذكره تبارك وتعالى والتسبيح بحمده، وغاية تلك الشريعة السمحاء وما أنزله الله على رسوله من كتاب أو ما جاءت به السنة الصريحة فالأداء لها من الوفاء لرب العالمين.
والإنسان في سيره إلى الله يعلم أنه لابد في عمله من التقصير، وكلنا خطاء وذو تقصير، ونحن لا ندعي كمالاً بل نرجوه، ونقول كما قال الصلحاء من قبلنا: اللهم لسنا برآء فنعتذر ولا أقوياء فننتصر، ولكن لا حول ولا قوة إلا بالله! نسأل الله أن يعيننا على أنفسنا حتى نقوم بحقه على الوجه الأكمل والنحو الأتم.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.