الملقي: ما هي الصفات التي لابد أن تتحقق في الراسخين في العلم، فإن طلبة العلم والعلماء كثر لكن من هو الذي نقول: هذا راسخ في العلم؟ الشيخ: يقولون عن مالك رحمه الله: كان إذا حدث بالحديث يتوضأ ويعتدل في جلسته، وإذا تكلم في الفقه رحمه الله قعد كيفما اتفق.
الكلام في الراسخين في العلم كلام مهيب مخيف وأرجو أن أكون أهلاً لأن أتكلم فيه وأنقله للناس، فيعرف الراسخ في العلم بأربعة أشياء سلوكية: التقوى بينه وبين الله، والتواضع بينه وبين الناس، والزهد في الدنيا، والمجاهدة بينه وبين نفسه.
وتحرير ذلك: أنه لا يمكن أن نصف أحداً بأنه عالم راسخ في العلم وقلبه خال من التقوى لا في السر ولا في العلانية، ولا يمكن أن يوصف هذا بأنه عالم أصلاً؛ لكن التقوى درجات، فينبغي أن يكون الراسخ في العلم في أعلى درجات التقوى بامتثال أوامر الله واجتناب نواهيه، أن ينظر الناس إليه كقدوة فلا يجدون فيه إلا تقوى الله، وليس الأمر بالتمني والتحلي ولكنه تطبيق عملي، وهذا مضمار أو شرف كل يدعيه والناجون فيه قليل، والحاصلون عليه أقل.
فينبغي للعالم الحق الراسخ في العلم أن يكون تقياً، وهذا أشرف المواطن وما بعده مندرج فيه.
فإذا قلنا التواضع بينه وبين الناس فمن أخطائنا أن الشيطان يغلبنا أحياناً فيجعل تلقينا للعلم لينظر إلينا الناس، لنتصدر في المجالس، وهذه أمور تبقى في النفس سيأتي الحديث عنها، وعندما يشاهده الناس عالماً مبجلاً، إذا وجد هذا التبجيل تبعاً فلا يمكن للإنسان أن يمنع الناس منه إلا إذا رآهم يغالون، ولا يضره عندما لا يكون مطلوباً له، وكيف يعرف أنه غير مطلوب له؟ يعرفه حين لا يبقى في قلبه شيء على من لم يبجله، ولا يسعى لمكان يرى أنه يبجل فيه ويترك مكاناً لا يبجل فيه، اللهم إلا مكاناً لا يريد منه الناس أن يتكلم فيه، فهذه مسألة أخرى.
فهذا الأمر الفاصل في قضية أن الإنسان يكون فيه تواضع مع المسلمين، والنبي صلى الله عليه وسلم سيد العلماء كما هو سيد الأنبياء، والقدوة في تواضعه.
أما إذا كان العالم يترفع على الناس بعلمه ويطلب من الناس ثمن علمه اجتماعياً بأن يتكبر عليهم ويرى أن له الحق عليهم والتقدير والتبجيل فهذا قد يقال إنه أخذ حقه في الدنيا، فلا يأتي يوم القيامة وهو يؤمل أن يجد شيئاً عند الله، والله جل وعلا كلما عظمت محبته لعبد عظم ما ادخره له.
ولهذا أقول والعلم عند الله: لأمر ما قال الله عن خليله إبراهيم: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنِ الصَّالِحِينَ} [العنكبوت:27]، وذلك حتى لا يفهم أحد أن إبراهيم عندما أخذ أجره في الدنيا ليس له شيء يوم القيامة، أعني: أن الأصل أن من أخذ أجره وافياً في الدنيا ليس له شيء يوم القيامة، فيقال: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الأحقاف:20]، لكن لأن إبراهيم كان لا يريد بعلمه ودعوته إلا الله وفاه الله أجره في الدنيا وقال: {وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنِ الصَّالِحِينَ} [العنكبوت:27].
فالمقصود أن التواضع للناس هو السمة العظمى للعلماء.
الصفة الثالثة: الزهد في الدنيا في تعامله، والدنيا لا يكون الزهد فيها في ملبس أو هيئة الإنسان، يعني: لو أني أتيت إلى هذا البرنامج بشماغ مخرق ولا ألبس عباءة سيقول الناس: ما شاء الله، هذا الشيخ زاهد متواضع، هذا الشيخ لا يملك شماغاً، فكأني حصلت على الدنيا من وجه آخر، فثناء الناس من متاع الدنيا، ولو أتيت أرفل في الحرير وفي أمور عظام لقالوا: هذا متكبر على الناس.
لكن يكون الإنسان كما كان النبي صلى الله عليه وسلم لما رزق النبوة منع الحرير وقصر الإزار وبقي يلبس كما يلبس قومه فلم يأت بجديد، ولهذا جاء النهي عن لباس الشهرة.
يعيش مع الناس كما يعيشون في حياتهم العادية، فعندما يأتي إنسان يركب سيارة كامبرس وراتبه 10000 أو 12000 مثلاً فهناك توافق بين مركوبه وراتبه، فهذا أمر يجري على الناس كلهم، فهذا نوع من الزهد في الدنيا، أحياناً يأتي أناس لا سبيل لهم إلى جمع المال فيظنون أن هذا زهد وهو متشوف في قلبه لأمور عظيمة يريد الوصول إلى تلك الأمور لكن أقعده أنه لا يستطيع الوصول إليها.
إنما الشأن كل الشأن من يستطيع أن يصل إليها ثم لا يأخذ منها إلا الكفاف والقناعة، هذا هو الزاهد في الدنيا حقاً، وهو من كانت الدنيا في يده ولم تكن في قلبه، وهذا أمر يقع فيه خطر عظيم، فأول فتنة وقعت في الأمة فتنة المال وفتنة الدنيا، فالخوارج أول الفرق ظهوراً ورأسهم الذي خرج من ضئضئه الخوارج ذو الخويصرة، لما قسم النبي صلى الله عليه وسلم غنائم حنين قال: اعدل! فقال صلى الله عليه وسلم: (ويلك! إن لم أعدل فمن يعدل؟ ثم قال: سيخرج من ضئضئ هذا أقوام تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم).
ولهذا قال العلماء إن أول فتنة كانت بسبب الدنيا فالدنيا لما ذكر الله زينتها قسمها فقال: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ} [آل عمران:14]، فأعظم ما يمكن أن يبتلى به طالب العلم قضية النساء، فقد يسرف الإنسان في الدخول في أمور نسوية تقوده عياذاً بالله من حيث لا يشعر وسط فتنة النساء فلا يستطيع الانفكاك منها؛ لأن المرأة غاية مرغوبة وزينة.
وهذا ليس فيه تنقص للنساء؛ لكن من حق الرجل أن يحافظ على دينه.
بعد ذكر النساء الله قال: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} [آل عمران:14]، الإنسان يحب أن يرى الناس أبناءه في أبهى حلة، فيبحث عن المال بأي طريقة ليظهر أبناءه منعمين، وهذا يخالف الرسوخ في العلم.
بعد ذلك جمع المال، وقد جاء في زماننا هذا الانفتاح الإعلامي، والانفتاح الإعلامي الحق أنه شهرة؛ لأن الإنسان يمجد ويبجل ويوسع له الطريق، فلا يجوز لمؤمن ينتسب إلى العلم أن يشتري بعلمه ثمناً قليلاً من الدنيا، لكن ما جاء عرضاً يحاول رده قدر الإمكان، ويقبله إن لم يكن فيه كبر في نفسه ولا ضرر على غيره، أما غير ذلك فلا يجوز لعاقل أن يأخذ حقه قبل أن يلقى الله.
الصفة الرابعة: بعد الزهد في الدنيا مجاهدة النفس: فنحن بشر ضعفاء مركب فينا النقص، مركب فينا الحسد، مركب فينا الحقد، مركب فينا حب المال، مركب فينا حب النساء، مركب فينا حب الظهور؛ هذه أمور لا يمكن أن نسلم منها فيسعى المؤمن الراسخ في العلم حقاً إلى مجاهدة نفسه فمرة يغلب ومرة يغلب، فإذا غلب استغفر الله وآب وتاب، وإذا غلب حمد الله جل وعلا وأثنى على ربه حتى تبقى النعمة.
هذه الأربع صفات سلوكية عظيمة في كل من يدعي رسوخاً في العلم.