الحمد لله الذي أحسن كل شيء خلقه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا معبود سواه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فنستعين بالله جل وعلا وهو المستعان ونقول: إن الله جل وعلا قال لنبيه في سورة المائدة: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27] إلى آخر الآيات.
قوله: {نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ} [المائدة:27] كما أخبر الله جل وعلا في ظاهر القرآن الذي عليه جماهير أهل العلم: أنهما أبناء آدم لصلبه، وفي رواية عن الحسن: أنهما من بني إسرائيل وهذا بعيد؛ لأنه بعيد أن يكون الناس قد امتد بهم الدهر إلى بني إسرائيل، ولا يعرف أحدهم كيف يفعل بأخيه إذا قتله، أو أن يجهلوا أمر قبره.
فعلى هذا الذي عليه الكافة: أنهما أبناء آدم من صلبه، والله جل وعلا أراد لأبينا آدم أن يكون أباً للبشر، وحتى يكون أباً للبشر لابد أن تتناسل الذرية، وحتى يكون هناك تناسل في الذرية لابد من التزاوج، فكانت حواء تحمل في كل بطن ذكراً وأنثى على ما قاله أهل التفسير، فكان يزوج الذكر من الأنثى من البطن الآخر، وهكذا.
وظاهر الأمر: أن قابيل لم يرض بأن يتزوج هابيل من أخته التي معه في بطنه، ويتزوج هو أخت هابيل التي معه في نفس البطن وفي نفس الحمل، فكأن الأمر بينهما وصل إلى نزاع واختصام، فأشار عليهما أبوهما أن يقدم كل منهما قرباناً، ولعل هذا بأمر من الله، فكان أحدهما صاحب زرع وهو قابيل، فاختار أردى شيء من ذلك، وكان أحدهما صاحب غنم، فاختار كبشاً من أحسن كباشه، وهو هابيل، والخلاف في أيهما صاحب الزرع، وأيهما صاحب الضان لا يقدم ولا يؤخر في الكل، فالمهم هو النفس الطيبة عند تقديم القربان لله جل وعلا، وقد كانت الآية في قبول القربان: أن تأتي النار فتأكل القربان المتقبل، فجاءت النار فأكلت قربان هابيل علامة على قبوله، ولم تأكل قربان قابيل علامة على رده.
وهنا: دب الحسد في قلب قابيل فجاء إلى أخيه وقال: لأقتلنك، فأجابه الأخ: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27] أي: أن معيار التقوى هو المعيار عند الله جل وعلا، فليس بين الله وبين أحد من خلقه واسطة، وليس المقام مقام تكذيب.
ثم ما زال البغي والحسد في قلب قابيل حتى قال لأخيه: لأقتلنك، فقال له مجيباً: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [المائدة:29] وقال قبلها: {لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ} [المائدة:28].
قال بعض العلماء: إن هابيل كان أشد قوة من قابيل، لكن خوفه من مقام الله منعه، ويؤيد ذلك قول الله: {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [المائدة:28] على لسان هابيل.
ثم كان من الأمر أن سولت تلك النفس لقابيل أن يقتل أخاه فقتله، فلما قتله وكان هذا أول قتل يكون في الأرض -قال صلى الله عليه وسلم: (لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها) - لم يدر كيف يصنع به: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ} [المائدة:31]، قيل: إن الغرابين اقتتلا أمامه، هذا الوارد، لكن القرآن لم ينص عليه، والمهم منه: أن الغراب قبر الغراب الآخر، فقال قابيل: {قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [المائدة:31].
هذا مجمل ما ذكره الله جل وعلا من خبر ابني آدم، وهو خبر بالحق كما قال إلهنا الحق جل جلاله.