الرشد الذي لا يرفضه إلا سفيه، يترك الرشد إلى الغي، ويدع الهدى إلى الضلال، ويؤثر التخبط والقلق والهبوط والضآلة على الطمأنينة والسلام والرفعة والاستعلاء!
ثم يزيد حقيقة الإيمان إيضاحا وتحديدا وبيانا: «فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها» .. إن الكفر ينبغي أن يوجه إلى ما يستحق الكفر، وهو «الطاغوت».وإن الإيمان يجب أن يتجه إلى من يجدر الإيمان به وهو «اللَّهُ».
والطاغوت صيغة من الطغيان، تفيد كل ما يطغى على الوعي، ويجور على الحق، ويتجاوز الحدود التي رسمها اللّه للعباد، ولا يكون له ضابط من العقيدة في اللّه، ومن الشريعة التي يسنها اللّه، ومنه كل منهج غير مستمد من اللّه، وكل تصور أو وضع أو أدب أو تقليد لا يستمد من اللّه. فمن يكفر بهذا كله في كل صورة من صوره ويؤمن باللّه وحده ويستمد من اللّه وحده فقد نجا .. وتتمثل نجاته في استمساكه بالعروة الوثقى لا انفصام لها.
وهنا نجدنا أمام صورة حسية لحقيقة شعورية، ولحقيقة معنوية .. إن الإيمان باللّه عروة وثيقة لا تنفصم أبدا .. إنها متينة لا تنقطع .. ولا يضل الممسك بها طريق النجاة .. إنها موصولة بمالك الهلاك والنجاة .. والإيمان في حقيقته اهتداء إلى الحقيقة الأولى التي تقوم بها سائر الحقائق في هذا الوجود .. حقيقة اللّه .. واهتداء إلى حقيقة الناموس الذي سنه اللّه لهذا الوجود، وقام به هذا الوجود. والذي يمسك بعروته يمضي على هدى إلى ربه فلا يرتطم ولا يتخلف ولا تتفرق به السبل ولا يذهب به الشرود والضلال.
«وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» .. يسمع منطق الألسنة، ويعلم مكنون القلوب. فالمؤمن الموصول به لا يبخس ولا يظلم ولا يخيب.
ثم يمضي السياق يصور في مشهد حسي حي متحرك طريق الهدى وطريق الضلال وكيف يكون الهدى وكيف يكون الضلال .. يصور كيف يأخذ اللّه - ولي الذين آمنوا - بأيديهم، فيخرجهم من الظلمات إلى النور. بينما الطواغيت - أولياء الذين كفروا - تأخذ بأيديهم فتخرجهم من النور إلى الظلمات! إنه مشهد عجيب حي موح. والخيال يتبع هؤلاء وهؤلاء، جيئة من هنا وذهابا من هناك. بدلا من التعبير الذهني المجرد، الذي لا يحرك خيالا، ولا يلمس حسا، ولا يستجيش وجدانا، ولا يخاطب إلا الذهن بالمعاني والألفاظ.