وطغيان ألوهية العباد على ألوهية اللّه ووقوع الناس عبيدا للعباد مرة أخرى. وهو أفسد الفساد: «إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ» ..
ولا يكون بعد هذا النذير نذير، ولا بعد هذا التحذير تحذير .. والمسلمون الذين لا يقيمون وجودهم على أساس التجمع العضوي الحركي ذي الولاء الواحد والقيادة الواحدة، يتحملون أمام اللّه - فوق ما يتحملون في حياتهم ذاتها - تبعة تلك الفتنة في الأرض، وتبعة هذا الفساد الكبير.
ثم يعود السياق القرآني ليقرر أن الإيمان الحق إنما يتمثل في هذه الصورة: «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ» .. أولئك هم المؤمنون حقا .. فهذه هي الصورة الحقيقية التي يتمثل فيها الإيمان .. هذه هي صورة النشأة الحقيقية والوجود الحقيقي لهذا الدين .. إنه لا يوجد حقيقة بمجرد إعلان القاعدة النظرية ولا بمجرد اعتناقها ولا حتى بمجرد القيام بالشعائر التعبدية فيها .. إن هذا الدين منهج حياة لا يتمثل في وجود فعلي، إلا إذا تمثل في تجمع حركي .. أما وجوده في صورة عقيدة فهو وجود حكمي، لا يصبح (حقا) إلا حين يتمثل في تلك الصورة الحركية الواقعية ..
وهؤلاء المؤمنون حقا، لهم مغفرة ورزق كريم .. والرزق يذكر هنا بمناسبة الجهاد والإنفاق والإيواء والنصرة وتكاليف هذا كله .. وفوقه المغفرة وهي من الرزق الكريم. بل هي أكرم الرزق الكريم.
ثم يلحق بالطبقة الأولى من المهاجرين المجاهدين، كل من يهاجر بعد ذلك ويجاهد - وإن كانت للسابقين درجتهم كما تقرر النصوص القرآنية الأخرى - إنما هذا إلحاق في الولاء والعضوية في المجتمع الإسلامي: «وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ» ..
ولقد ظل شرط الهجرة قائما حتى فتح مكة حين دانت أرض العرب للإسلام ولقيادته، وانتظم الناس في مجتمعه. فلا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد وعمل. كما قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - غير أن ذلك إنما كان في جولة الإسلام الأولى التي حكم فيها الأرض