وهو أمر عظيم جدا، كما أنه أمر عسير جدا. عسير أن يعيش الناس في الأرض بقيم وموازين آتية من السماء. مطلقة من اعتبارات الأرض. متحررة من ضغط هذه الاعتبارات.

ندرك عظمة هذا الأمر وعسره حين ندرك ضخامة الواقع البشري، وثقله على المشاعر، وضغطه على النفوس، وصعوبة التخلي عن الملابسات والضغوط الناشئة من الحياة الواقعية للناس، المنبثقة من أحوال معاشهم، وارتباطات حياتهم، وموروثات بيئتهم، ورواسب تاريخهم، وسائر الظروف الأخرى التي تشدهم إلى الأرض شدا، وتزيد من ضغط موازينها وقيمها وتصوراتها على النفوس.

كذلك ندرك عظمة هذا الأمر وعسره حين ندرك أن نفس محمد بن عبد اللّه - صلى الله عليه وسلم - قد احتاجت - كي تبلغه - إلى هذا التوجيه من ربه بل إلى هذا العتاب الشديد، الذي يبلغ حد التعجيب من تصرفه! وإنه ليكفي لتصوير عظمة أي أمر في هذا الوجود أن يقال فيه:إن نفس محمد بن عبد اللّه - صلى الله عليه وسلم - قد احتاجت - كي تبلغه - إلى تنبيه وتوجيه! نعم يكفي هذا. فإن عظمة هذه النفس وسموها ورفعتها، تجعل الأمر الذي يحتاج منها - كي تبلغه - إلى تنبيه وتوجيه أمرا أكبر من العظمة، وأرفع من الرفعة! وهذه هي حقيقة هذا الأمر، الذي استهدف التوجيه الإلهي إقراره في الأرض، بمناسبة هذا الحادث المفرد .. أن يستمد الناس قيمهم وموازينهم من السماء، طلقاء من قيم الأرض وموازينها المنبثقة من واقعهم كله .. وهذا هو الأمر العظيم ..

إن الميزان الذي أنزله اللّه للناس مع الرسل، ليقوّموا به القيم كلها، هو: «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ» .. هذه هي القيمة الوحيدة التي يرجح بها وزن الناس أو يشيل! وهي قيمة سماوية بحتة، لا علاقة لها بمواضعات الأرض وملابساتها إطلاقا ..

ولكن الناس يعيشون في الأرض، ويرتبطون فيما بينهم بارتباطات شتى كلها ذات وزن وذات ثقل وذات جاذبية في حياتهم. وهم يتعاملون بقيم أخرى .. فيها النسب، وفيها القوة، وفيها المال. وفيها ما ينشأ عن توزيع هذه القيم من ارتباطات عملية .. اقتصادية وغير اقتصادية .. تتفاوت فيها أوضاع الناس بعضهم بالنسبة لبعض. فيصبح بعضهم أرجح من بعض في موازين الأرض ..

طور بواسطة نورين ميديا © 2015