لا يحملنكم الخلاف معي والعناد في مواجهتي على أن تلجوا في التكذيب والمخالفة، خشية أن يصيبكم ما أصاب الأقوام قبلكم. وهؤلاء قوم لوط قريب منكم في المكان. وقريب كذلك في الزمان. فمدين كانت بين الحجاز والشام.
ثم يفتح لهم - وهم في مواجهة العذاب والهلاك - باب المغفرة والتوبة، ويطمعهم في رحمة اللّه والقرب منه بأرق الألفاظ وأحناها: «وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ، إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ» ..
وهكذا يطوف بهم في مجالات العظة والتذكر والخوف والطمع، لعل قلوبهم تتفتح وتخشع وتلين.
ولكن القوم كانوا قد بلغوا من فساد القلوب، ومن سوء تقدير القيم في الحياة، وسوء التصور لدوافع العمل والسلوك، ما كشف عنه تبجحهم من قبل بالسخرية والتكذيب: «قالُوا: يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ، وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً، وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ، وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ» ..
فهم ضيقو الصدور بالحق الواضح، لا يريدون أن يدركوه: «قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ» ..
وهم يقيسون القيم في الحياة بمقياس القوة المادية الظاهرة: «وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً» ..
فلا وزن عندهم للحقيقة القوية التي يحملها ويواجههم بها.
«وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ» .. ففي حسابهم عصبية العشيرة، لا عصبية الاعتقاد، وصلة الدم لا صلة القلب. ثم هم يغفلون عن غيرة اللّه على أوليائه فلا يضعونها في الحساب.
«وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ» .. لا عزة التقدير والكرامة ولا عزة الغلب والقهر. ولكننا نحسب حساب الأهل والعشيرة!
وحين تفرغ النفوس من العقيدة القويمة والقيم الرفيعة والمثل العالية فإنها تقبع على الأرض ومصالحها القريبة وقيمها الدنيا فلا ترى حرمة يومئذ لدعوة كريمة، ولا لحقيقة كبيرة ولا تتحرج عن البطش بالداعية إلا أن تكون له عصبة تؤويه وإلا أن تكون معه قوة مادية