«وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ» .. والعثو هو الإفساد، فلا تفسدوا متعمدين الإفساد، قاصدين إلى تحقيقه. ثم يوقظ وجدانهم إلى خير أبقى من ذلك الكسب الدنس الذي يحصلون عليه بنقص المكيال والميزان وبخس الناس أشياءهم في التقدير: «بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» ..
فما عند اللّه أبقى وأفضل .. وقد دعاهم في أول حديثه إلى عبادة اللّه وحده - أي الدينونة له بلا شريك -فهو يذكرهم بها هنا، مع ذكر الخير الباقي لهم عند اللّه إن آمنوا كما دعاهم، واتبعوا نصيحته في المعاملات. وهي فرع عن ذلك الإيمان.
«بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ .. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» .. ثم يخلي بينهم وبين اللّه الذي دعاهم إليه، ويبين لهم أنه هو لا يملك لهم شيئا، كما أنه ليس موكلا بحفظهم من الشر والعذاب. وليس موكلا كذلك بحفظهم من الضلال ولا مسؤولا عنهم إن هم ضلوا، إنما عليه البلاغ وقد أداه: «وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ» .. ومثل هذا الأسلوب يشعر المخاطبين بخطورة الأمر، وبثقل التبعة، ويقفهم وجها لوجه أمام العاقبة بلا وسيط ولا حفيظ.
ولكن القوم كانوا قد عتوا ومردوا على الانحراف والفساد، وسوء الاستغلال: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87)} [هود:87] ..
وهو رد واضح التهكم، بيّن السخرية في كل مقطع من مقاطعه. وإن كانت سخرية الجاهل المطموس، والمعاند بلا معرفة ولا فقه.
«أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا؟» .. فهم لا يدركون - أولا يريدون أن يدركوا - أن الصلاة هي من مقتضيات العقيدة، ومن صور العبودية والدينونة. وأن العقيدة لا تقوم بغير توحيد اللّه، ونبذ ما يعبدونه من دونه هم وآباؤهم، كما أنها لا تقوم إلا بتنفيذ شرائع اللّه في التجارة وفي تداول الأموال وفي كل شأن من شئون الحياة والتعامل. فهي لحمة واحدة لا يفترق فيها الاعتقاد عن الصلاة عن شرائع الحياة وعن أوضاع الحياة.