«وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ، إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ، وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ، وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ، وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ، وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ. بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ» ..

والقضية هنا هي قضية الأمانة والعدالة - بعد قضية العقيدة والدينونة - أو هي قضية الشريعة والمعاملات التي تنبثق من قاعدة العقيدة والدينونة .. فقد كان أهل مدين - وبلادهم تقع في الطريق من الحجاز إلى الشام - ينقصون المكيال والميزان، ويبخسون الناس أشياءهم، أي ينقصونهم قيمة أشيائهم في المعاملات. وهي رذيلة تمس نظافة القلب واليد، كما تمس المروءة والشرف. كما كانوا بحكم موقع بلادهم يملكون أن يقطعوا الطريق على القوافل الذاهبة الآئبة بين شمال الجزيرة وجنوبها. ويتحكموا في طرق القوافل ويفرضوا ما يشاءون من المعاملات الجائرة التي وصفها اللّه في هذه السورة.

ومن ثم تبدو علاقة عقيدة التوحيد والدينونة للّه وحده بالأمانة والنظافة وعدالة المعاملة وشرف الأخذ والعطاء، ومكافحة السرقة الخفية سواء قام بها الأفراد أم قامت بها الدول. فهي بذلك ضمانة لحياة إنسانية أفضل، وضمانة للعدل والسلام في الأرض بين الناس. وهي الضمانة الوحيدة التي تستند إلى الخوف من اللّه وطلب رضاه، فتستند إلى أصل ثابت، لا يتأرجح مع المصالح والأهواء ..

إن المعاملات والأخلاق لا بد أن تستند إلى أصل ثابت لا يتعلق بعوامل متقلبة .. هذه هي نظرة الإسلام.

وهي تختلف من الجذور مع سائر النظريات الاجتماعية والأخلاقية التي ترتكن إلى تفكيرات البشر وتصوراتهم وأوضاعهم ومصالحهم الظاهرة لهم! وهي حين تستند إلى ذلك الأصل الثابت ينعدم تأثرها بالمصالح المادية القريبة كما ينعدم تأثرها بالبيئة والعوامل السائدة فيها.

فلا يكون المتحكم في أخلاق الناس وقواعد تعاملهم من الناحية الأخلاقية هو كونهم يعيشون على الزراعة أو يعيشون على الرعي أو يعيشون على الصناعة .. إن هذه العوامل المتغيرة تفقد تأثيرها في التصور الأخلاقي وفي قواعد المعاملات الأخلاقية، حين يصبح

طور بواسطة نورين ميديا © 2015