وجد! وإلا فكيف يمضي والقوى الكونية الهائلة تعاكس اتجاهه؟ وهي - بزعمهم - التي تصرف نفسها ولا سلطان وراء سلطانها؟
إن التصور الإسلامي وحده هو الذي يمضي وراء هذه الجزئيات ليربطها كلها بأصل شامل متناسق .. إن اللّه هو الذي خلق الكون، وهو الذي خلق الإنسان. وقد اقتضت مشيئته وحكمته أن يجعل طبيعة هذا الكون بحيث تسمح بنشأة هذا الإنسان، وأودع الإنسان من الاستعدادات ما يسمح له بالتعريف إلى بعض نواميس الكون واستخدامها في حاجته .. وهذا التناسق الملحوظ هو الجدير بصنعة اللّه الذي أحسن كل شيء خلقه.
ولم يجعل خلائقه متعاكسة متعادية متدابرة! وفي ظل هذا التصور يعيش «الإنسان» في كون مأنوس صديق وفي رعاية قوة حكيمة مدبرة .. يعيش مطمئن القلب، مستروح النفس، ثابت الخطو، ينهض بالخلافة عن اللّه في الأرض في اطمئنان الواثق بأنه معان على الخلافة ويتعامل مع الكون بروح المودة والصداقة ويشكر اللّه كلما اهتدى إلى سر من أسرار الوجود وكلما تعرف إلى قانون من قوانينه التي تعينه في خلافته وتيسر له قدرا جديدا من الرقي والراحة والمتاع.
إن هذا التصور لا يكفه عن الحركة لاستطلاع أسرار الوجود والتعريف إلى نواميسه .. على العكس، هو يشجعه ويملأ قلبه ثقة وطمأنينة .. إنه يتحرك في مواجهة كون صديق لا يبخل عليه بأسراره، ولا يمنع عنه مدده وعونه .. وليس في مواجهة كون عدو يتربص به ويعاكس اتجاهاته ويسحق أحلامه وآماله! إن مأساة «الوجودية» الكبرى هي هذا التصور النكد الخبيث .. تصور الوجود الكوني - بل الوجود الجماعي للبشرية ذاتها - معاكسا في طبيعته للوجود الفردي الإنساني، متجها بثقله الساحق إلى سحق هذا الوجود الإنساني! إنه تصور بائس لا بد أن ينشئ حالة من الانزواء والانكماش والعدمية! أو ينشئ حالة من الاستهتار والتمرد والفردية! وفي كلتا الحالتين لا يكون إلا القلق المضني! والبؤس النفسي والعقلي، والشرود في التيه: تيه التمرد، أو تيه العدم .. وهما سواء ..
وهي ليست مأساة «الوجودية» وحدها من مذاهب الفكر الأوربي. إنها مأساة الفكر الأوربي كله - بكل مذاهبه واتجاهاته - بل مأساة الجاهلية كلها في جميع أزمانها