وقد خفتت دعوة الأنبياء من زمن، والمصابيح التي أوقدوها قد انطفأت من العواصف التي هبت بعدهم أو بقيت، ونورها ضعيف ضئيل لا ينير إلا بعض القلوب فضلاً عن البيوت فضلاً عن البلاد، وقد انسحب رجال الدين من ميدان الحياة، ولاذوا إلى الأديرة والكنائس والخلوات، فراراً بدينهم من الفتن وضناً بأنفسهم، أو رغبة إلى الدعة والسكوت، وفراراً من تكاليف الحياة وجدها، أو فشلاً في كفاح الدين والسياسة والروح والمادة، ومن بقي منهم في تيار الحياة اصطلح مع الملوك وأهل الدنيا، وعاونهم على إثمهم وعدوانهم، وأكل أموال الناس بالباطل ... على حساب الضعفاء والمحكومين.وإن الإنسانية لا تشقى بتحول الحكم والسلطان والرفاهية والنعيم من فرد إلى فرد آخر من جنسه، أو من جماعة إلى جماعة أخرى مثلها في الجور والاستبداد وحكم الإنسان للإنسان، وإن هذا الكون لا يتفجع ولا يتألم فقط بانحطاط أمة أدركها الهرم وسرى فيها الوهن، وسقوط دولة تآكلت جذورها وتفككت أوصالها، بل بالعكس تقتضي ذلك سنَّة الكون، وإن دموع الإنسان لأعز من أن تفيض كل يوم على ملك راحل وسلطان زائل، وإنه لفي غنىً، وإنه لفي شغل عن أن يندب من لم يعمل يوماً لإسعاده، ولم يكدح ساعة لصالحه، وإنَّ السماء والأرض لتقسوان كثيراً على هذه الحوادث التي تقع ووقعت كل يوم ووقعت ألوف المرات {كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ {25} وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ {26} وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ {27} كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ {28} فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} سورة الدخان.
بل إن كثيراً من هؤلاء السلاطين والأمم كانوا كَلاً على ظهر الأرض، وويلاً للنوع الإنساني وعذاباً للأمم الصغيرة والضعيفة، ومنبع الفساد والمرض في جسم المجتمع البشري، يسري منه السم في أعصابه وعروقه، ويتعدى المرض إلى الجسم السليم فكان لا بد من عملية جراحية، وكان قطع هذا الجزء السقيم وإبعاده من الجسم السليم مظهراً كبيراً لربوبية رب العالمين ورحمته، يستوجب الحمد والامتنان من جميع أعضاء الأسرة الإنسانية، بل من جميع أفراد الكون {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ