من الكلدانيين بالعراق كانوا يعبدون الأصنام كما كانوا يعبدون الكواكب والنجوم - فالإله الذي يعبد، والذي يتوجه إليه العباد في السراء والضراء، والذي خلق الناس والأحياء .. هذا الإله في فطرة إبراهيم لا يمكن أن يكون صنما من حجر، أو وثنا من خشب .. وإذا لم تكن هذه الأصنام هي التي تخلق وترزق وتسمع وتستجيب - وهذا ظاهر من حالها للعيان - فما هي بالتي تستحق أن تعبد وما هي بالتي تتخذ آلهة حتى على سبيل أن تتخذ واسطة بين الإله الحق والعباد! وإذن فهو الضلال البين تحسه فطرة إبراهيم - عليه السّلام - للوهلة الأولى. وهي النموذج الكامل للفطرة التي فطر اللّه الناس عليها .. ثم هي النموذج الكامل للفطرة وهي تواجه الضلال البين، فتنكره وتستنكره، وتجهر بكلمة الحق وتصدع، حينما يكون الأمر هو أمر العقيدة: «أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً؟ إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» .. كلمة يقولها إبراهيم - عليه السّلام - لأبيه. وهو الأواه الحليم الرضي الخلق السمح اللين، كما ترد أوصافه في القرآن الكريم. ولكنها العقيدة هنا. والعقيدة فوق روابط الأبوة والبنوة، وفوق مشاعر الحلم والسماحة. وإبراهيم هو القدوة التي أمر اللّه المسلمين من بنيه أن يتأسوا بها. والقصة تعرض لتكون أسوة ومثالا ..
وكذلك استحق إبراهيم - عليه السّلام - بصفاء فطرته وخلوصها للحق أن يكشف اللّه لبصيرته عن الأسرار الكامنة في الكون، والدلائل الموحية بالهدى في الوجود: «وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ» ..
بمثل هذه الفطرة السليمة، وهذه البصيرة المفتوحة وعلى هذا النحو من الخلوص للحق، ومن إنكار الباطل في قوة .. نري إبراهيم حقيقة هذا الملك .. ملك السماوات والأرض .. ونطلعه على الأسرار المكنونة في صميم الكون، ونكشف له عن الآيات المبثوثة في صحائف الوجود، ونصل بين قلبه وفطرته وموحيات الإيمان ودلائل الهدى في هذا الكون العجيب. لينتقل من درجة الإنكار على عبادة الآلهة الزائفة، إلى درجة اليقين الواعي بالإله الحق ..
وهذا هو طريق الفطرة البديهي العميق .. وعي لا يطمسه الركام. وبصر يلحظ ما في الكون من عجائب صنع اللّه. وتدبر يتبع المشاهد حتى تنطق له بسرها المكنون .. وهداية