وساعتها قد يحتاج ذلك المجتمع الخاص - بعد نشأته في مواجهة الجاهلية وتحركه في مواجهة الحياة - إلى البنوك وشركات التأمين وتحديد النسل ... إلخ وقد لا يحتاج! ذلك أننا لا نملك سلفا أن نقدر أصل حاجته، ولا حجمها، ولا شكلها، حتى نشرّع لها سلفا! كما أن ما لدينا من أحكام هذا الدين لا يطابق حاجات المجتمعات الجاهلية ولا يلبيها .. ذلك أن هذا الدين لا يعترف ابتداء بشرعية وجود هذه المجتمعات الجاهلية ولا يرضى ببقائها. ومن ثم فهو لا يعني نفسه بالاعتراف بحاجاتها الناشئة من جاهليتها ولا بتلبيتها كذلك! إن المحنة الحقيقية لهؤلاء الباحثين أنهم يتصورون أن هذا الواقع الجاهلي هو الأصل، الذي يجب على دين اللّه أن يطابق نفسه عليه!
ولكن الأمر غير ذلك تماما .. إن دين اللّه هو الأصل الذي يجب على البشرية أن تطابق نفسها عليه وأن تحور من واقعها الجاهلي وتغير حتى تتم هذه المطابقة .. ولكن هذا التحور وهذا التغير لا يتمان عادة إلا عن طريق واحد .. هو التحرك - في وجه الجاهلية - لتحقيق ألوهية اللّه في الأرض وربوبيته وحده للعباد، وتحرير الناس من العبودية للطاغوت، بتحكيم شريعة اللّه وحدها في حياتهم ..
وهذه الحركة لا بد أن تواجه الفتنة والأذى والابتلاء. فيفتن من يفتن ويرتد من يرتد، ويصدق اللّه من يصدقه فيقضي نحبه ويستشهد، ويصبر من يصبر ويمضي في حركته حتى يحكم اللّه بينه وبين قومه بالحق، وحتى يمكن اللّه له في الأرض، وعندئذ فقط يقوم النظام الإسلامي، وقد انطبع المتحركون لتحقيقه بطابعه، وتميزوا بقيمة .. وعندئذ تكون لحياتهم مطالب وحاجات تختلف في طبيعتها وفي طرق تلبيتها عن حاجات المجتمعات الجاهلية ومطالبها وطرق تلبيتها .. وعلى ضوء واقع المجتمع المسلم يومذاك تستنبط الأحكام وينشأ فقه إسلامي حي متحرك - لا في فراغ - ولكن في وسط واقعي محدد المطالب والحاجات والمشكلات ..
ومن ذا الذي يدرينا اليوم مثلا أن يكون الناس في مجتمع مسلم تجبى فيه الزكاة وتنفق في مصارفها، ويقوم فيه التراحم والتكافل بين أهل كل محلة، ثم بين كل أفراد الأمة، وتقوم حياة الناس فيه على غير السرف والترف والمخيلة والتكاثر .. إلى آخر مقومات الحياة الإسلامية