رب العبيد. هذه حقيقة. وحقيقة مثلها أن نجهر بها ونصدع، وألا ندع الناس في شك منها ولا لبس.
وقد يكره الناس هذا في أول الأمر، وقد يجفلون منه ويشفقون. ولكن الناس كذلك كرهوا مثل هذا وأشفقوا منه في أول العهد بالدعوة إلى الإسلام. أجفلوا وآذاهم أن يحقر محمد - صلى الله عليه وسلم - تصوراتهم، ويعيب آلهتهم، وينكر أوضاعهم، ويعتزل عاداتهم وتقاليدهم، ويتخذ لنفسه وللقلة المؤمنة معه أوضاعاً وقيماً وتقاليد غير أوضاع الجاهلية وقيمها وتقاليدها. ثم ماذا؟ ثم فاؤوا إلى الحق الذي لم يعجبهم أول مرة، والذي أجفلوا منه: {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ، فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} .. [المدثر:50 - 51]
والذي حاربوه ودافعوه بكل ما يملكون من قوة وحيلة، والذي عذبوا أهله عذاباً شديداً وهم ضعاف في مكة، ثم قاتلوهم قتالاً عنيداً وهم أقوياء في المدينة .. ولم تكن الدعوة في أول عهدها في وضع أقوى ولا أفضل منها الآن .. كانت مجهولة مستنكرة من الجاهلية، وكانت محصورة في شعاب مكة، مطاردة من أصحاب الجاه والسلطان فيها، وكانت غريبة في زمانها في العالم كله. وكانت تحف بها امبراطوريات ضخمة عاتية تنكر كل مبادئها وأهدافها. ولكنها مع هذا كله كانت قوية، كما هي اليوم قوية، وكما هي غداً قوية .. إن عناصر القوة الحقيقية كامنة في طبيعة هذه العقيدة ذاتها، ومن ثَمَّ فهي تملك أن تعمل في أسوأ الظروف وأشدها حرجاً. إنها تكمن في الحق البسيط الوضاح الذي تقوم عليه. وفي تناسقها مع الفطرة التي لا تملك أن تقاوم سلطانها طويلاً، وفي قدرتها على قيادة البشرية صعداً في طريق التقدم، في أية مرحلة كانت البشرية من التأخر أو التقدم الاقتصادي والاجتماعي والعلمي والعقلي .. كما أنها تكمن في صراحتها هذه وهي تواجه الجاهلية بكل قواها المادية فلا تخرم حرفاً واحداً من أصولها، ولا تربت على شهوات الجاهلية، ولا تتدسس إليها تدسساً. إنما تصدع بالحق صدعاً مع إشعار الناس بأنها خير ورحمة وبركة ..