الآن، في الشرق أو في الغرب سواء .. إنما جاء هذا كله إلغاءً، وينسخه نسخاً، ويقيم الحياة البشرية على أسسه الخاصة. جاء لينشئ الحياة إنشاءً. لينشئ حياة تنبثق منه انبثاقاً، وترتبط بمحوره ارتباطاً. وقد تشابه جزئيات منه جزئيات في الحياة التي يعيشها الناس في الجاهلية. ولكنها ليست هي، وليست منها. إنما هي مجرد مصادفة هذا التشابه الظاهري الجانبي في الفروع. أما أصل الشجرة فهو مختلف تماماً. تلك شجرة تطلعها حكمة الله، وهذه شجرة تطلعها أهواء البشر: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً} .. [الأعراف:58]
وهذه الجاهلية خبثت قديماً وخبثت حديثاً .. يختلف خبثها في مظهره وشكله، ولكنه واحد في مغرسه وأصله .. إنه هوى البشر الجهال المغرضين، الذين لا يملكون التخلص من جهلهم وغرضهم، ومصلحة أفراد منهم أو طبقات أو أمم أو أجناس يغلبونها على العدل والحق والخير. حتى تجيء شريعة الله فتنسخ هذا كله، وتشرِّع للناس جميعاً تشريعاً لا يشوبه جهل البشر، ولا يلوِّثه هواهم، ولا تميل به مصلحة فريق منهم.
ولأن هذا هو الفارق الأَصيل بين طبيعة منهج الله ومناهج الناس، فإنه يستحيل الالتقاء بينهما في نظام واحد، ويستحيل التوفيق بينهما في وضع واحد. ويستحيل تلفيق منهج نصفه من هنا ونصفه من هناك. وكما أن الله لا يغفر أن يشرك به. فكذلك هو لا يقبل منهجاً مع منهجه .. هذه كتلك سواء بسواء. لأن هذه هي تلك على وجه اليقين.
هذه الحقيقة ينبغي أن تكون من القوة والوضوح في نفوسنا ونحن نقدم الإسلام للناس بحيث لا نتلجلج في الإدلاء بها ولا نتلعثم، ولا ندع الناس في شك منها، ولا نتركهم حتى يستيقنوا أن الإسلام حين يفيئون إليه سيبدِّل حياتهم تبديلاً .. سيبدل تصوراتهم عن الحياة كلها. كما سيبدل أوضاعهم كذلك. سيبدلها ليعطيهم خيراً منها بما لا يقاس. سيبدلها ليرفع تصوراتهم ويرفع أوضاعهم، ويجعلهم أقرب إلى المستوى الكريم اللائق بحياة الإنسان. ولن يبقى لهم شيئاً من أوضاع الجاهلية الهابطة التي هم فيها، اللهم إلا الجزيئات التي يتصادف أن يكون لها من جزئيات النظام الإسلامي شبيه. وحتى هذه لن تكون هي بعينها، لأنها ستكون مشدودة إلى أصل كبير يختلف اختلافاً بيِّناً عن الأصل الذي هم مشدودون إليه