الثاني: هل يلزم من هذه الآية النهي عن السلم مطلقا بحيث تحرم المهادنة بين المسلمين والمشركين في كل حال، فتكون هذه الآية ناسخة لآية البقرة الداعية إلى الدخول في السلم كافّة؟

أم هل تكون آية البقرة الداعية إلى الدخول في السلم ناسخة لهذه الآية في دلالتها على تحريم الدعوة إلى السلم؟

الجواب على ذلك وبالله التوفيق أن النسخ هنا غير متوجه؛ إذ لم تكتمل آلته وشروطه، فمن شرط النسخ معرفة المتقدم، وعدم إمكان الجمع بين النّصّين.

وهاهنا فإن معرفة المتقدم والمتأخر من النّصّين غير متحققة بيقين، أما الجمع بين النّصّين فهو ممكن غير متعذّر، وقد تكفّل أستاذنا الزحيلي في التفسير المنير ببيانه حيث قال: لا تجوز الدعوة إلى السّلم والمصالحة أو المهادنة تذلّلا، وإظهارا للضعف ما دام المسلمون أقوياء، وإن حدثت الغلبة من الأعداء في الظاهر في بعض الأحوال، فإن الله ناصر المؤمنين، ولن ينقصهم شيئا من أعمالهم.

فإذا عجز المسلمون لضعفهم عن مقاومة الأعداء جازت مهادنة الكفار عند الضرورة.

وكذلك إذا رأى الإمام مصلحة في المهادنة؛ فله أن يفعل ذلك، كما فعل النّبي صلّى الله عليه وسلّم في صلح الحديبية مع المشركين مدة عشر سنين.

أما إن طلب المشركون الصّلح بحسن نيّة من غير خداع فلا بأس بإجابتهم، لقوله تعالى:

وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وعلى هذا يكون كل من الآيتين- فَلا تَهِنُوا، وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ- محكمة وغير منسوخ إحداهما بالأخرى كما قال بعضهم، فهما نزلتا في وقتين مختلفي الحال، فالأولى في حال قوة المسلمين، والثانية حال طلب الأعداء للصلح (?).

وشبيه بهذا الرأي ما حرره الشوكاني في فتح القدير بقوله: «فلا يخفاك أنه لا مقتضى للقول بالنّسخ، فإن الله سبحانه نهى المسلمين في هذه الآية عن أن يدعوا إلى السّلم ابتداء، ولم ينه عن قبول السّلم إذا جنح إليه المشركون، فالآيتان محكمتان، ولم يتواردا على محل واحد حتى يحتاج إلى دعوى النّسخ أو التّخصيص» (?).

طور بواسطة نورين ميديا © 2015