وعجيب البيان. ولكنهم على ذلك لم يكونوا يمتلكون كتابا أمّا يرجعون إليه في تمييز الصحيح من الدّخيل، ويقعّدون على أساسه قواعد نطقهم.

كذلك فإنهم لم يعدموا لسانا مفهما، يتحاورون فيه، ويتبادلون على أساسه حوائجهم ومعارفهم وخبراتهم، ولكن إرهاصات الشقاق اللغوي كانت قد تهيأت تماما، ومضت في سبيلها المتناكس، وشجع على ذلك نمو العصبية القبلية، والاتصال بالعجم، وغياب أي شكل جدّي من أشكال الوحدة العربية المطلوبة.

وبوسعك أن تتصور أي مستقبل كان ينتظر اللغة العربية في ضوء هذه المعطيات، لولا الثورة اللغوية التي أعقبت نزول القرآن الكريم، وانتشار قرّائه وحفّاظه في الأمصار، يجمعون الناس على منهج واحد، وبهم تبوأت اللغة العربية مكانها، وتأصّل الصحيح محل ما يجب هدمه من رطانة وانحراف، ولغات ضالة لا تنتمي إلى أصول الكلام العربي. وأمّا اللهجات العربية المحترمة، فقد تكفلت بحفظها القراءات القرآنية، التي أذن بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولدى الاستقراء فإنك تجد أنها تحتوي على كثير من اللهجات العربية، ولكنها محكومة بضابط من القواعد يمكن ردّها إليها، والاحتكام على أساسها.

لقد كانت اختيارات النّبي صلّى الله عليه وسلّم في أمر القراءة المأذون بها، تتم فيما يمكن تسميته بمطبخ اللغة العربية على أساس الإجماع العربي، حيث تمّ تمييز الاصيل من الدّخيل من كلام العرب، وأمكن حينئذ أن تبدأ جهود علماء اللغة في تأصيل القواعد وتحريرها، الأمر الذي نتجت عنه علوم النحو والصرف والبلاغة والعروض وما لحق بها من معارف تفصيلية جعلت لغة العرب من أضبط اللغات قواعدا، وأكثرها تعليلا، وأوضحها معالجة.

وعلى ضوء ذلك تمّ ترتيب البيت الداخلي للسان العرب، وتوفرت الوثيقة المعتمدة لضبط اللسان العربي- وهي القرآن الكريم- وفق ما رتّله النّبي صلّى الله عليه وسلّم من وجوه القراءات، وتلقّاه عنه أصحابه الكرام.

وهكذا فقد أصبحت الجزيرة العربية تعتمد لسانا عربيا واحدا، مهما اختلفت فيه من شيء ردته إلى الكتاب الإمام، بعد ذلك التفت العرب إلى أراضيهم المسلوخة عنهم في بلاد الشام والعراق والشمال الإفريقي، وقد تزاحمت فيها رطانات الأمم الغالبة، حتى لم يبق للعربية أثر يذكر في لغة

طور بواسطة نورين ميديا © 2015