فالمراد بذلك الرحلة في طلب العلم ليس للجهاد فيها أثر، وقد نبَّه النبي - صلى الله عليه وسلم -، على عظيم موقعه في الدين، وهي عبادة بدنية مالية تحتمل الدنيا بأن يقاتل الرجل لها، وتحتمل الآخرة بأن يسعى في لقاء الله تعالى وفي سبيله وإعلاء كلمته، وإنما ضرب النبي - صلى الله عليه وسلم -، له مثلاً بالصائم القائم الذي لا يقتر فنبَّه على هذه المراتب الثلاث من فضله. أما مرتبة الصيام فلأنه ترك لذَّاته وأعرض عن نسائه وماله وهذا صوم عظيم. وأما قوله القائم فمثلاً لما هو فيه من العمل بالسير إلى العدو أولاً ولمقابلته ونكايته آخراً. وأما المرتبة الثالثة وهي الدوام فليست إلا للمجاهد لأن الصائم قد يفطر ويطأ ويلتذ، والقائم قد ينام ويستريح، وعمل المجاهد دائم في انكفافه وأفعاله فلا يعادل هذا عمل من الأعمال، ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "الْخَيْلُ ثَلاَثَةٌ" (?) فذكر أنها لرجل وزر، وهو الذي يربطها لأذاية المسلمين، ولرجل ستر وهو الذي يتخذها مكتسباً يتعفف بها عن المسألة ويقيم حقَّ الله في رقابها وظهورها إذا تعيَّن عليه الغزو فيها، ولرجل أجر وهو الذي ربطها في سبيل الله، فكل ما يكون من فعلها في أثناء تصرفاتها وحركاتها فذلك كله في حسناته لأن النيَّة الأولى انسحبت عليها، وبفضل الله تعالى على العبد بالإجزاء بها فيكتب له ما يأتي بعدها، وكذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: "تَكَفَّلَ الله لِمَنْ جَاهِدَ في سَبِيلِهِ" (?) الحديث معناه التزم وكفى بالله كفيلاً، والتزامه إخباره لأن خبره صدق ووعده حق، ثم قال: لا يخرجه من بيته إلا الجهاد في سبيله وتصديق كلماته في الإيمان أولاً والثقة بالضمان آخراً، وقوله: أن يدخله الجنة يعني إن قتل. وكذلك روى مسلم في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنه قال: "قَعَدَ الشيْطَانُ لِابْنِ آدَمَ في طَرِيقِ الإيمانِ فَقَالَ لَهُ: أتُسَلِمْ وَتَذِرْ دِينَكَ وَدينَ آبَائِكَ فَخَالَفَهُ فَأسْلَم ثُمَّ قَعَدَ لِهُ في طَرِيقِ الْهُجْرَةِ فَقَالَ لِهُ: أتُهَاجِرْ وَتَدَعْ أرْضَكَ وَديَارَكَ فَخَالَفَهُ فَهَاجَرَ، ثُم قَعَدَ لَهُ في طَرِيقِ الْجِهَادِ فَقَالَ لَهُ: أَتُجَاهِدْ فَتُقْتَلْ فَتَذِرْ عِيَالَكَ وَأَطْفَالَكَ فَحَقٌّ عَلَى الله إذاً فَعَلَ ذلِكَ أنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ" (?)، وقوله: أو يرده إلى