وحوَت كل البيان مجامعه وبدائعه، واعتدل مع إيجازه حسن نظمه، وانطبق على كثرة فوائده مختار لفظه، وهم (أي العرب) أفسح ما كانوا في هذا الباب مجالا، وأشهر في الخطابة رجالا، وأكثر في السجع والشعر سجالا، وأوسع في الغريب واللغة مقالا، بلغتهم التي بها يتحاورون، ومنازعهم التي عنها يتناضلون، صارخا بهم في كل حينٍ، ومقرعا لهم بضعا وعشرين عاما على رؤوس الملأ أجمعين:

{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} 1.

{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} 2.

{قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَات} 3.

ذلك أن المفترى أسهل، ووضع الباطل والمختلق على الاختيار أقرب، واللفظ إذا نبع المعنى الصحيح كان أصعب.

فلم يزل يقرّعهم صلى الله عليه وسلم أشدّ التقريع، ويوبّخهم غاية التوبيخ، ويسفّه أحلامهم، ويحطّ أعلامهم، ويشتّت نظامهم، ويذمّ آلهتهم وإياهم، ويستبيح أرضهم وديارهم وأموالهم، وهم في كل هذا ناكصون عن معارضته، يخادعون أنفسهم بالتشغيب بالتكذيب، والإغراء بالافتراء، والادّعاء مع العجز بقولهم: {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} وقد قال لهم الله: {وَلَنْ تَفْعَلُوا} فما فعلوا ولا قدروا ... "

هذا هو الوجه الأوّل من وجوه الإعجاز القرآنيّ كما يراه القاضي عياض.

وعن الوجه الثاني: وهو صورة نظمه العجيب، والأسلوب الغريب

طور بواسطة نورين ميديا © 2015