وجدنا أن هذه الأوجه ليست جديدة على أذهاننا، أو بمعنى آخر: وجدنا أنه ليس أوّل من أشار إليها، إن هذه الوجوه ليست من كدّ فكره، ولا من إعمال عقله، ولكنها من جمعه وتحصيله، ونقله وتدوينه.

فالقاضي عياض - شأنه شأن علماء عصره - جال جولات واسعة بين ثنايا مؤلفات السابقين وانتقى منها واختصر لبعضها؛ كي يجمع مادة علمية لهذا الباب الذي خصّصه للإعجاز؛ لذلك نستطيع أن نقول بوضوح إنه لم يأت بجديد في بحثه.

إن عصره لم يكن عصر إبداع أو إختراع.. وإنما كان عصر تجميع وتهذيب، ثم انتخاب وسرد، إن العلماء السابقين - منذ القرن الثالث الهجري إلى حوالي منتصف القرن الخامس - قتلوا كل هذه الموضوعات بحثا وتدقيقا، وتحليلا وتمحيصا، وتعمّقوا إلى أن توصّلوا إلى آراء كثيرة طيبة وجديدة، أما من جاء بعدهم فكان مجهودهم متواضعا؛ لم يكن في مقدورهم أن يضيفوا شيئا جديدا، ولكنه - نتيجة لما اكتسبوه من ثقافة - استطاعوا أن يختصروا ويهذبوا، وينتقوا ويوفِّقوا.. وفي حقيقة الأمر لم يستطيعوا الإتيان بجديد يذكر في مجال البحث.

من هنا نستطيع أن نقول: إن القاضي عياض كان جمّاعا ناقلا، مختصرا مهذِّبا لآراء السابقين، والدليل على ذلك قوله أحيانا: "وإلى هذا ذهب غير واحد من أئمة المحققين1" وقوله: "وقد اختلف أئمة أهل السنة2" وقوله: "وقد عدّ جماعة من الأئمة ومقلدي الأمة3"، وهو وإن استطاع أن يلبس ما نقله واختصره ثوبا جديدا، إلا أنه لم يستطع أن يخفي حقيقة صاحبه، أو يحجب وجه مؤلفه؛ نستطيع أن نسمع صوت الجاحظ من خلال الوجه الأوّل حين قال عن العرب: "ولهم الحجة البالغة والقوة الدامغة، القدح الناتج والمهيع الناهج..، لا يشكون أن الكلام طوع مرادهم، والبلاغة ملك قيادهم، قد حوَوْا فنونها واستنبطوا عيونها، ودخلوا من كل باب من أبوابها، وعَلَوْا صرحه لبلوغ أسبابها، فقالوا في الخطير والمهين،

طور بواسطة نورين ميديا © 2015