الإيجاز والبلاغة بذاتها، والأسلوب الغريب بذاته، كل واحد منها نوع إعجاز على التحقيق، لم تقدر العرب على الإتيان بواحد منهما؛ إذ كلّ واحد خارج عن قدرتها، مباين لفصاحتها وكلامها، وإلى هذا ذهب غير واحد من أئمة المحققين".
أما الوجه الثالث - كما يراه القاضي عياض - فهو الوجه التاريخي الذي عبر عنه بقوله: "ما انطوى عليه من الإخبار بالمغيبات، وما لم يكن ولم يقع؛ فوجد كما ورد على الوجه الذي أخبر، كقوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} ، وقوله تعالى: {آلم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} ، {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} ، {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} .
فكان جميع هذا كما قال؛ فغلبت الروم فارس في بضع سنين، ودخل الناس في الإسلام أفواجا، فما مات صلى الله عليه وسلم وفي بلاد العرب كلها موضع لم يدخله الإسلام، واستخلف الله المؤمنين في الأرض، ومكّن فيها دينهم، وملّكهم إيّاها من أقصى المشارق إلى أقصى المغارب، كما قال صلى الله عليه وسلم: "زويت لي الأرض؛ فأُريت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها".
وأما الوجه الرابع من وجوه إعجاز القرآن: فهو يتصل كسابقه بالجانب التاريخي، ولكنه لا يتناول الأمور المستقبلة، ولكنه يتحدّث عن أخبار القرون السالفة والأمم البائدة والشرائع الدائرة، مما كان لا يعلم منه القصة الواحدة إلا الفذّ من أحبار أهل الكتاب على نصِّه فيعترف العالم بذلك؛ فيورده النبي - صلى الله عليه وسلم - على وجهه، ويأتي به على نصه، فيعترف العالم بذلك بصحته وصدقه