وَأَنَّ الشُّهَدَاءَ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ.

، وَأَرْوَاحُ أَهْلِ السَّعَادَةِ بَاقِيَةٌ نَاعِمَةٌ إلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، وَأَرْوَاحُ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ

ـــــــــــــــــــــــــــــQمَعْنَاهُ أَنَّهُ يُعَامِلُهُ مُعَامَلَةَ الْكَافِرِ بِالِارْتِدَادِ مِنْ قَتْلِهِ إنْ تَرَكَهَا كَسَلًا وَعِنَادًا أَوْ أَخَّرْنَاهُ لَآخِرِ الْوَقْتِ وَلَمْ يَفْعَلْ وَإِنْ كَانَ هَذَا يُقْتَلُ حَدًّا، بِخِلَافِ الْجَاحِدِ فَإِنَّهُ يَكْفُرُ.

1 -

(تَتِمَّةٌ: أَهْلُ الْبِدَعِ عَلَى أَصْنَافٍ) مِنْهُمْ مُعْتَزِلَةٌ وَهُمْ أَتْبَاعُ وَاصِلِ بْنِ عَطَاءِ اللَّهِ الَّذِي قَالَ: إنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ وَلَا كَافِرٍ، سُمُّوا بِذَلِكَ لِقَوْلِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ شَيْخِ وَاصِلٍ حِينَ سُئِلَ عَنْ جَمَاعَةٍ يُكَفِّرُونَ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ وَأَطْرَقَ رَأْسَهُ مُفَكِّرًا فِي الْجَوَابِ عَلَى وَجْهِ الْحَقِّ فَبَادَرَهُ وَاعْتَزَلَ مَجْلِسَ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَأَخَذَ بِقَوْلِهِ النَّاسُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: مُؤْمِنٌ وَكَافِرٌ وَلَا وَلَا وَهُوَ صَاحِبُ الْكَبِيرَةِ، وَأَرَادَ إثْبَاتَ الْمَنْزِلَةِ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ وَهِيَ كَوْنُ الشَّخْصِ لَا مُؤْمِنًا وَلَا كَافِرًا اعْتَزَلَ عَنَّا وَاصِلٌ فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ أَسَّسَ قَوَاعِدَ الِابْتِدَاعِ، وَسَمُّوا أَنْفُسَهُمْ أَصْحَابَ الْعَدْلِ وَالتَّوْحِيدِ لِقَوْلِهِمْ بِوُجُوبِ ثَوَابِ الْمُطِيعِ وَعُقُوبَةِ الْعَاصِي وَهُوَ فِعْلُ الصَّلَاحِ وَالْأَصْلَحِ، وَيَنْفُونَ زِيَادَةَ الصِّفَاتِ الْقَدِيمَةِ يَقُولُونَ: اللَّهُ عَالَمٌ بِلَا عِلْمٍ وَقَادِرٌ بِلَا قُدْرَةٍ. وَمِنْهُمْ الْقَدَرِيَّةُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: الْعَبْدُ يَخْلُقُ أَفْعَالَ نَفْسِهِ. وَمِنْهُمْ الْجَبْرِيَّةُ الَّذِينَ يَنْفُونَ الْكَسْبَ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ الْعَبْدَ كَالْخَيْطِ الْمُعَلَّقِ فِي الْهَوَاءِ، وَمِنْهُمْ الْخَوَارِجُ الَّذِينَ يَخْرُجُونَ عَنْ الْإِمَامِ الْعَادِلِ وَلَا يَمْتَثِلُونَ أَمْرَهُ. وَمِنْهُمْ الْجَهْمِيَّةُ الْمُتَّبِعُونَ إلَى رَأْي أَبِي جُهَيْمٍ الْمُنْفَرِدِ بِمَقَالَةٍ بَاطِلَةٍ كَخَلْقِ الْقُرْآنِ وَإِنْكَارِ رُؤْيَةِ الْبَارِي وَالصِّفَاتِ الْقَدِيمَةِ. وَمَنْ لَمْ نُكَفِّرْهُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْفِرَقِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ وَلَوْ بَعْدَ دُخُولِ النَّارِ؛ لِأَنَّهُ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ.

(وَ) مِمَّا يَجِبُ الْجَزْمُ بِحَقِيقَتِهِ (أَنَّ) أَجْسَامَ (الشُّهَدَاءِ) جَمْعُ شَهِيدٍ وَهُمْ الَّذِينَ قَاتَلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ (أَحْيَاءٌ) حَقِيقَةً (عِنْدَ رَبِّهِمْ) أَيْ فِي جَنَّةِ رَبِّهِمْ (يُرْزَقُونَ) مِنْ مُشْتَهَى الْجَنَّاتِ مِثْلُ مَا يُرْزَقُ الْأَحْيَاءُ فِي الدُّنْيَا.

قَالَ تَعَالَى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] نَزَلَتْ فِي قَتْلَى بَدْرٍ لَمَّا قَالَ النَّاسُ فِي حَقِّ مَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ: مَاتَ فُلَانٌ وَذَهَبَ عَنْهُ نَعِيمُ الدُّنْيَا وَلَذَّتُهَا، فَكَرِهَ سُبْحَانَهُ أَنْ يَحُطَّ مَنْزِلَتَهُمْ فَأَنْزَلَ هَذِهِ الْآيَةَ.

قَالَ الْعَلَّامَةُ الْجُزُولِيُّ: حَيَاةُ الشُّهَدَاءِ حَيَاةٌ غَيْرُ مُكَيَّفَةٍ وَلَا مَعْقُولَةٍ لِلْبَشَرِ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهَا عَلَى مَا جَاءَ بِهِ ظَاهِرُ الشَّرْعِ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُمْ فِي الْجَنَّةِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ «قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأُمِّ حَارِثَةَ: إنَّهُ فِي الْفِرْدَوْسِ» وَفِي أَسْبَابِ النُّزُولِ لِلْوَاحِدِيِّ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلصَّحَابَةِ لَمَّا أُصِيبَ إخْوَانُهُمْ بِأُحُدٍ: جَعَلَ اللَّهُ أَرْوَاحَهُمْ فِي أَجْوَافِ طُيُورٍ خُضْرٍ تَرِدُ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ وَتَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا وَتَأْوِي إلَى قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ مُعَلَّقَةٍ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ فَلَمَّا وَجَدُوا طِيبَ مَأْكَلَهُمْ وَمَشْرَبَهُمْ قَالُوا مَنْ يُبَلِّغُ إخْوَانَنَا عَنَّا أَنَّنَا أَحْيَاءٌ فِي الْجَنَّةِ نُرْزَقُ لِئَلَّا يَزْهَدُوا فِي الْجِهَادِ وَيَتَأَخَّرُوا عَنْ الْحَرْبِ؟ فَقَالَ اللَّهُ: أَنَا أُبَلِّغُهُمْ عَنْكُمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [آل عمران: 169] الْآيَةُ» .

تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ: مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمُتَّصِفَ بِالْحَيَاةِ أَجْسَادُ الشُّهَدَاءِ وَأَنَّ أَجْسَادَهُمْ حَقِيقَةٌ ظَاهِرُ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، لَكِنَّ حَيَاتَهُمْ لَيْسَتْ كَحَيَاتِهِمْ فِي الدُّنْيَا لِمَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ أَجْسَادَهُمْ لَا تَعُودُ إلَيْهَا الْحَيَاةُ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا فَالْحَاصِلُ أَنَّ تِلْكَ الْحَيَاةَ لَا تَمْنَعُ إطْلَاقَ اسْمِ الْمَيِّتِ عَلَيْهِ بَلْ حَيَاةٌ غَيْرُ مَعْقُولَةٍ لِلْبَشَرِ.

الثَّانِي: حَمَلْنَا الشُّهَدَاءَ عَلَى شُهَدَاءِ الْحَرْبِ الَّذِينَ قَاتَلُوا لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ ارْتِكَابِ مُؤْثِمٍ؛ لِأَنَّهُمْ الْمُجَاهِدُونَ شَرْعًا، وَبَعْضُهُمْ أَلْحَقَ بِهِمْ مَنْ قَاتَلَ لِغَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ ذَاهِبًا إلَى إرَادَةِ الْغَنِيمَةِ أَوْ الْوُقُوعِ فِي مَعْصِيَةٍ لَا تُنَافِي حُصُولَ الشَّهَادَةِ. نَعَمْ اخْتَارَ جَمْعٌ التَّفْصِيلَ بَيْنَ الْقَصْدِ الْأُخْرَوِيِّ فَيُؤْجَرُ بِقَدْرِهِ وَبَيْنَ الْقَصْدِ الدُّنْيَوِيِّ فَلَا يُؤْجَرُ كَمَا إذَا قُصِدَا مَعًا، وَأَلْحَقَ الْقُرْطُبِيُّ بِالْمُجَاهِدِ كُلَّ مَقْتُولٍ عَلَى الْحَقِّ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهَذَا الْفَضْلُ وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ فِي قِتَالِ الْكُفَّارِ فَيَدْخُلُ فِيهِ مَنْ خَرَجَ فِي قِتَالِ الْبُغَاةِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَفِي إقَامَةِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَرِ، وَإِنَّمَا سُمُّوا شُهَدَاءَ؛ لِأَنَّهُمْ شُهِدَ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ أَوْ؛ لِأَنَّ أَرْوَاحَهُمْ شَهِدَتْ دَارَ السَّلَامِ، بِخِلَافِ أَرْوَاحِ غَيْرِهِمْ لَا تَشْهَدُهَا إلَّا عِنْدَ الْقِيَامَةِ، أَوْ؛ لِأَنَّ دَمَهُ يَشْهَدُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَوْ؛ لِأَنَّ اللَّهَ شَهِدَ لَهُ بِاللُّطْفِ وَالرَّحْمَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلِلشَّهِيدِ كَرَامَتَانِ غَيْرَ هَذِهِ، كَالْأَمْنِ مِنْ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَكَالْغُفْرَانِ بِأَوَّلِ الْمُلَاقَاةِ وَأَنَّهُ يُتَوَّجُ بِتَاجِ الْكَرَامَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ يَشْفَعُ فِي اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ مِنْ أَقَارِبِهِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ يَتَزَوَّجُ بِسَبْعِينَ مِنْ الْحُورِ الْعِينِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يُسْأَلُ فِي قَبْرِهِ، وَمِنْهَا أَنَّ الْأَرْضَ لَا تَأْكُلُ جَسَدَهُ كَالْأَنْبِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ وَالْمُؤَذِّنِينَ احْتِسَابًا فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُسْتَثْنَيَاتِ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كُلُّ ابْنِ آدَمَ تَأْكُلُهُ الْأَرْضُ إلَّا عَجْبُ الذَّنَبِ» وَهُوَ عَظْمٌ صَغِيرٌ فِي مَغْرِزِ الذَّنَبِ لِلدَّابَّةِ.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015