الْإِنْسَانَ وَيَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ، وَهُوَ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ، وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إلَّا يَعْلَمُهَا، وَلَا حَبَّةٍ فِي

ـــــــــــــــــــــــــــــQفِي أَمْكِنَتِهَا وَأَزْمِنَتِهَا وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ عِلْمَهُ تَعَالَى صِفَةٌ أَزَلِيَّةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ زَائِدَةٌ عَلَيْهَا مُحِيطَةٌ بِالْوَاجِبَاتِ وَالْجَائِزَاتِ وَالْمُسْتَحِيلَاتِ، وَلَا يُوصَفُ عِلْمُهُ بِالضَّرُورَةِ وَلَا الِاكْتِسَابِ وَهُوَ صِفَةٌ وَاحِدَةٌ وَإِنْ تَعَدَّدَتْ مُتَعَلِّقُهَا، وَأَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ: وَهُوَ فِي كُلِّ مَكَان بِعِلْمِهِ إلَى بَيَانِ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7] وقَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4] فَإِنَّ الْمُرَادَ الْإِشَارَةُ إلَى إحَاطَةِ عِلْمِهِ بِجَمِيعِ الْأَمْكِنَةِ وَمَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ.

وَالْمُرَادُ بِالْمَعِيَّةِ الْمُصَاحَبَةُ بِالْعِلْمِ لَا الْمُصَاحَبَةُ فِي الْمَكَانِ لِتَنَزُّهِهِ عَنْ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: إلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا عِلْمًا وَحُكْمًا لَا نَفْسًا وَذَاتًا، وَبِالْحَمْلِ الْمَذْكُورِ عَلِمْت الرَّدَّ عَلَى مَنْ قَالَ: أُخِذَ عَلَى الْمُصَنِّفِ فِي اسْتِعْمَالِ هَذَا اللَّفْظِ مِنْ وَجْهَيْنِ: إيهَامُهُ الْجِهَةِ وَأَنَّ عِلْمَهُ يَتَجَزَّأُ مَعَ تَنَزُّهِهِ عَنْ الْجِهَةِ وَعَنْ التَّجَزُّؤِ لِعِلْمِهِ الْمُوهِمِ مُفَارِقَتَهُ لِذَاتِهِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَعِلْمُهُ تَعَالَى مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ حَتَّى بِحَقِيقَةِ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ بِشَهَادَةِ {أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ} [الطلاق: 12] وَ {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الأنعام: 73] وَالدَّلِيلُ عَلَى إحَاطَةِ عِلْمِهِ تَعَالَى بِجَمِيعِ الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ وَمَا فِيهَا مَعَ مَا قَدَّمْنَا مِنْ الْآيَاتِ أَنَّهُ (خَلَقَ) أَيْ أَوْجَدَ (الْإِنْسَانَ) وَكَذَا غَيْرَهُ، وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى الْإِنْسَانِ لِأَجْلِ قَوْلِهِ: (وَيَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ) أَيْ تُحَدِّثُ (بِهِ نَفْسُهُ) أَيْ مَا يَقُولُهُ فِي نَفْسِهِ وَيَخْطِرُ بِبَالِهِ.

قَالَ الْأُجْهُورِيُّ: وَسْوَسَةُ النَّفْسِ مَا يَخْطِرُ بِبَالِ الْإِنْسَانِ وَيَهْجِسُ فِي ضَمِيرِهِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ وَإِنْ غَلَبَ اسْتِعْمَالُهَا فِي الشَّرِّ، وَفَسَّرْنَا حَدِيثَ النَّفْسِ بِمَا يَقُولُهُ فِي نَفْسِهِ وَيُجْرِيه عَلَى قَلْبِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ} [المجادلة: 8] فَأَطْلَقَ عَلَى حَدِيثِ النَّفْسِ قَوْلًا، وَالْوَسْوَسَةُ تُطْلَقُ عَلَى الصَّوْتِ الْخَفِيِّ وَعَلَى كُلِّ مَا يَخْطُرُ بِالْبَالِ وَيَهْجِسُ فِي ضَمِيرِ الْإِنْسَانِ، فَالْوَسْوَسَةُ وَالْوَسْوَاسُ حَدِيثُ النَّفْسِ وَسُمِّيَ بِذَلِكَ لِخَفَائِهِ أَوْ لِاشْتِغَالِ الْمُتَّصِفِ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ وَالْغَالِبُ اسْتِعْمَالُهَا فِي الشَّرِّ.

وَلِذَا أُضِيفَتْ لِلنَّفْسِ، وَعُمُومُ الْإِنْسَانِ مُتَنَاوِلٌ لِلْأَنْبِيَاءِ؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مَعْصُومِينَ مِنْ خَوَاطِرِ النَّفْسِ وَلَا مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ.

قَالَ تَعَالَى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [فصلت: 36] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى} [الحج: 52] أَيْ قَرَأَ {أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 52] أَيْ قِرَاءَتِهِ مَا لَيْسَ مِنْ الْقُرْآنِ. ثُمَّ يَنْسَخُ اللَّهُ جَمِيعَ مَا يُلْقِيه الشَّيْطَانُ وَيُبْطِلُهُ وَيُثْبِتُ آيَاتِهِ.

قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ يَجُوزُ عَلَيْهِمْ السَّهْوُ وَالنِّسْيَانُ وَالْغَلَطُ بِوَسْوَاسِ الشَّيْطَانِ أَوْ عِنْدَ شُغْلِ الْقَلْبِ حَتَّى يَغْلَطَ ثُمَّ يُنَبِّهَ وَيَرْجِعَ إلَى الصَّحِيحِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} [الحج: 52] وَحِينَئِذٍ فَالْعِصْمَةُ الْوَاجِبَةُ لِلْأَنْبِيَاءِ مِنْ الشَّيْطَانِ عِصْمَتُهُمْ مِنْ إغْوَائِهِ وَأَذِيَّتِهِ لَا مِنْ مُجَرَّدِ وَسْوَسَتِهِ وَتَفَلَتِهِ الْمُجَرَّدِينَ مِنْ الْإِيذَاءِ.

تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ: النَّفْسُ تُطْلَقُ عَلَى ذَاتِ الشَّيْءِ وَحَقِيقَتِهِ وَعَلَى الرُّوحِ وَهِيَ الْمُرَادَةُ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ، وَتَتَنَوَّعُ إلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ: أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ لِلْجَاهِلِ، وَلَوَّامَةٌ لِلتَّائِبِ، وَمُطْمَئِنَّةٌ لِلْعَارِفِ، وَإِسْنَادُ الْوَسْوَسَةِ إلَيْهَا مَجَازٌ كَنِسْبَةِ الْإِنْسَاءِ لِلشَّيْطَانِ فِي قَوْله تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ مُوسَى: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف: 63] وَالشَّيْطَانُ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى إيجَادِ شَيْءٍ وَلَا إعْدَامِهِ، وَوَجْهُ الْمَجَازِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَسْوَسَةِ مَا يَقُولُهُ الْإِنْسَانُ وَيُجْرِيه عَلَى قَلْبِهِ، فَالْمُوَسْوِسُ بِمَعْنَى الْمُتَحَدَّثِ فِي قَلْبِهِ هُوَ الشَّخْصُ، الثَّانِي: قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ النَّفْسَ مُرَادِفَةٌ لِلرُّوحِ وَأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ حَقِيقَتَهَا إلَّا الْبَارِي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَيُكْرَهُ الْخَوْضُ فِي حَقِيقَتِهَا.

قَالَ فِي الْجَوْهَرَةِ:

وَلَا تَخُضْ فِي الرُّوحِ إذْ مَا وَرَدَا ... نَصٌّ عَنْ الشَّارِعِ لَكِنْ وُجِدَا

لِمَالِكٍ هِيَ صُورَةٌ كَالْجَسَدِ ... فَحَسْبُك النَّصُّ بِهَذَا السَّنَدِ

وَهِيَ وَاحِدَةٌ عَلَى الْمُعْتَمَدِ خِلَافًا لِلْعِزِّ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ فِي قَوْلِهِ: إنَّ فِي كُلِّ جَسَدٍ رُوحَيْنِ: رُوحُ الْيَقِظَةِ الَّتِي يَكُونُ صَاحِبُهَا غَيْرَ نَائِمٍ عِنْدَ وُجُودِهَا وَيَنَامُ عِنْدَ مُفَارِقَتِهَا، وَرُوحُ الْحَيَاةِ الَّتِي يَمُوتُ الْحَيَوَانُ بِخُرُوجِهَا وَيَحْيَا بِوُجُودِهَا وَقَدْ قَدَّمْنَا ذَلِكَ. (وَ) كَمَا يَعْلَمُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُ الْإِنْسَانِ (هُوَ) أَيْ اللَّهُ (أَقْرَبُ إلَيْهِ) أَيْ إلَى الْإِنْسَانِ (مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) وَالْقَصْدُ التَّمْثِيلُ لِلتَّقْرِيبِ؛ لِأَنَّ قُرْبَ اللَّهَ مَعْنَوِيٌّ وَقُرْبَ حَبْلِ الْوَرِيدِ حِسِّيٌّ، وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْلَمُ بِحَالِ الْإِنْسَانِ مِمَّنْ يَكُونُ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015