وفسرت ما نهضا به من تعقيد في أدوات فنهما ووسائله.
ويدور الزمن بعد ذلك في العصور الوسطى درة بل ما شاء من دورات، فلا يظهر مذهب جديد في صناعة النثر العربي وصياغته، بل يجمد الأدباء عند صورة المذهب الأخير، يمكثون في إطارها حائرين حتى العصر الحديث. وهذه هي المذاهب، أو المراحل التي مر بها الفن في النثر العربي، فقد بدأ بمرحلة الصنعة، ثم انتقل إلى مرحلة التصنيع، وما لبث أن انتهى إلى مرحلة التصنع، وتحجر في هذه المرحلة، فلم يستطع منها إفلاتا ولا خلاصا. وقد ذهبت أدرس هذا النثر في الأندلس ومصر، فتعقبت في الأقليمين نشأته، وتطوره، ومناهج، وأشهر أساتذته وأعلامه، وانهيت من هذا التعقب إلى أن الأندلس ومصر جميعا لم يستحدثا مذهبا يمكن أن نضمه إلى جملة المذاهب التي ظهرت في المشرق. وإن الباحث ليشعر كأنما كانت أصول المذاهب المشرقية، في صناعة الأدبي العربي: شعره ونثره أثبت وأصلب في تاريخ هذا الأدب من أن يصيبها أي إقليم من الأقاليم العربية بضرب واسع من ضروب التحريف والتغيير، وليس معنى ذلك أن مصر والأندلس لم تعبرا عن شخصيتها أي تعبير في أدبهما، بل لقد عبرتا ولكن في طاقة محدودة، وداخل المذاهب المشرقية الموضوعة. وسقت بعد ذلك خاتمة عرضت فيها بإيجاز لنهضة النثر المصري الحديث.
وهذه الدراسة المتشعبة النثر العربي، وما مر به من أحداث في عصوره، وأقاليمه المختلفة جعلتني أرجع إلى كل ما استطعت من كتب الأدب والتاريخ والجغرافيا عند العرب، وكذلك رجعت إلى طائفة من كتب المستشرقين. وينبغي أن أشير هنا إلى صعوبة هذا البحث، وكثرة ما صادفني فيه من مشاكل، كما ينبغي أن أشير إلى أنه كانت غايتي الأساسية -منذ الخطوات الأولى فيه- أن أضع أمام القارئ الصور الدقيقة للنثر العربي في مختلف أطواره ومراحله، وهي صور حاولت أن أحتفظ لها بخصائصها، فلم أعتمد على حكاية إحساسي، وشعوري إزاء نماذجها؛ وأيضا فإنني لم أعتمد في مسألة على الفروض والأوهام، وإنما.