كلمة في العبارة السابقة، وهذه هي مهارة الحصكفي، التي أشاد بها العماد الأصبهاني، فهو يستطيع أن يعقد كتابته على هذا النحو، فإذا هي تتحول إلى لعب، وهي لعب كانت تستهوي الأدباء في عصر الحصكفي استهواء شديدًا، ولعل ذلك ما جعله يكثر من الجناسات على اختلاف ألوانها في كتبه، كقوله من رسالة أخرى1:
"فآنس أجمالًا تزم، وأحمالا تضم، وأحوالا تهول، وأهوالا تحول، وأوجالا تصول، وأصوالا تجول، وسمع تنادر القطان بمفارقة الأوطان، وتثويب الداع، بوشك الوداع، وللحداة زجل، وعلى القوم عجل، وقد بنيت القباب، وحثت الركاب، وفي الخدور أشباه البدور، وتحت الأكلة، أمثال الأهلة، وأيدي النوى لاعبة، وغربانه ناعبة، والحي قد طرق، والصواع قد سرق، وضمن مؤذن العير، لمن جاء به حمل بعير؛ يا له من عامري، يئس من عام ري".
وأنت ترى في هذه القطعة ضروب الجناس المختلفة من ناقص، ومعكوس ومقطوع، وموصول، وكل ذلك كان يأتي به الحصكفي ليثبت تفوقه، ومهارته، وأنه يستطيع أن يستخرد كل ما يمكن من عقد التصنع وصعوباته، وكان الناس من حوله يعجبون بهذا التصنع إعجابًا شديدًا، ويظهر أنه كان يتأثر بالحريري كما كان يتأثر بالمعري، إذ نراه يقلده في صنع رسالة سينية2 كسينيته، التي مرت بنا، وأيضًا فإنه صنع رسالة ألفها من الحروف المهملة3 على نحو ما أشرنا إليه عند الحريري في خطبته، التي ألفها من حروف غير منقوطة، وليس ذلك كل ما نلاحظ عند الحصكفي من تأثر بالحريري، فإن في رسالته رسالة فقهية4، قلد فيها المقامة الفقهية عند الحريري، وهي التي تسمى المقامة الطبية، وبجانب ذلك نجده يؤلف مقامة كبيرة، وقد افتخر بأنه ذكر فيها مائة وأربعين كلمة غريبة5، وما من ريب في أن ذلك كله يدل على مدى ما كان يحاوله الحصكفي من تعقيد في رسائله وآثاره، هو تعقيد دفعه إلى أن يجمع كل هذه الظروف في أعماله، حتى يقع من معاصريه موقعًا بديعًا.