أننا ننكر جمال مقامات الحريري، وتوفيقه في كثير من جوانبها، وإنما نريد أن نلاحظ هذه الملاحظة، وهي أن خير نموذج أدبي قدمته لنا العصور التالية بعد أبي العلاء، لم يستطع صاحبه أن ينفذ به إلى إعجاب الناس من حوله دون أن يضع لهم فيه ضروبًا من التعقيد، والتصعيب في الأداء بجانب ما فيه من سجع رشيق وترصيع وبديع، فقد مسح عليه لا بالتزامه ما لا يلزم في نهاية سجعاته، بل باستخدامه الواسع للكنايات، والأمثال، والمسائل النحوية، والفقهية والشعبذة برسالة رقطاء، وخطبة من ذوات الحروف المهملة، وما يتصل بذلك من استخدام ما لا يستحيل بالانعكاس، فإن هذه الجوانب كلها سقطت إلى عمله عن طريق مذهب التصنع، الذي كان يعجب به وبأصحابه، ومن الخطأ أن نبحث في هذه العصور عن كاتب لا يستخدم مثل هذه العقد والطرق الملتوية في فنه، فقد كان ذلك الذوق العام للناس، وكان الكاتب ما يزال يحتال على إرضاء هذا الذوق بصور وطرق مختلفة، وما من شك في أن الحريري كان يعرف ذلك معرفة دقيقة، ومن أجله ذهب يغرب على الناس في مقاماته بهذه المواد التي قدمناها حتى يظفر بإعجابهم، وقد استمرت به رغبته تلك، حتى استطاع أن يستحدث هذه الطرفة الغريبة، طرفة ما لا يستحيل بالانعكاس، وهي طرفة تعبر أبلغ تعبير، عما انتهى إليه الفن لعصر الحريري من تصعيب وتعقيد.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015