6- مقامات البديع، وما فيها من تصنع:

ونحن نعرض لضرب جديد من الكتابة ابتكره بديع الزمان، لنرى ما فيه من تصنع، وهو ما اشتهر به مقاماته، وهي نوع من القصص القصيرة تحفل بالحركة التمثيلية، وفيها تدور المحاورة بين شخصين سمي أحدهما عيسى بن هشام والآخر أبا الفتح الإسكندري، وهو من الآدباء السيارين أو المكذبين السائلين، يطوف من مكان إلى مكان يستجدي الناس بفصاحته وبيانه، يتقابل دائمًا هذا الشخص المسمى بأبي الفتح الإسكندري، مع راو له يحكي أخباره، وهو عيسى بن هشام، ويقول بديع الزمان -كما مر بنا-: إنه أصنع أربعمائة قصة من هذا النوع، أو كما يسميها هو مقامة1، غير أنه لم يصلنا منمها إلا نيف وخمسون فقط، وأكبر الظن أن بديع الزمان كان بصدد الافتخار، والتزيد في عمله، ولذلك ينبغي أن لا نفهم العدد الذي ذكره بمعناه الحرفي.

ويقف الباحثون عند كلمة مقامات، التي أطلقها البديع على قصصه، ويتساءلون عن المعاني، التي جاءت فيها قبله2، وإن من يرجع إلى الشعر الجاهلي يجدها تستعمل فيه بمعنى المجالس، يقول زهير بن أبي سلمى في بعض شعره3:

وفيهم مقامات حسان وجوهها ... وأندية ينتابها القول والفعل

وإن جئتهم ألفيت حول بيوتهم ... مجالس قد يشفى بأحلامها الجهل

ثم توسع العرب في معنى الكلمة، فأصبحوا يطلقونها على خطبهم، وأحاديثهم التي يقولونها في مجالسهم، وقد يفهم بيت زهير على هذا المعنى، واستمرت الكلمة تدل على المعنيين، حتى عصر بديع الزمان نفسه، إذ نجده يستخدمها في رسائله بمعنى المجالس 4، كما استخدمها الثعالبي بنفس المعنى5، وفي أخبار البديع أنه كان يختم مقامه، أو مجلسه في نيسابور بقصة من هذه القصص، ولعله من أجل ذلك اختار لهم اسم المقامات.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015