جانب بالحجج والبراهين كأنه يناقش مسألة علمية دقيقة هذه المناقشة دائمًا إلى فكرة التربيع، والأخذ به لا يخرج مهجوه عن حدود الاعتدال إلى حدود التقصير أو التبذير، وكأني بالجاحظ أحال أحمد بن عبد الوهاب إلى مشكلة من مشاكل الاعتزال، أو قل إلى مشكلة من مشاكل الفلسفة، إذ نراه يحقق فيه مسألة التوسط بين الطرفين تحقيقًا دقيقًا، وهو تحقيق يطوي كل ما يريد من سخرية به، وتهكم عليه إذ يتناوله مرة بالطول ومرة بالعرض، وهو في أثناء تناوله يمده تارة، ويقصره تارة أخرى، وتارة ثالثة يبعجه في مناظر تستخرد منا الضجم على ما يصنع بصاحبه من تشويه، وانظر إليه يحتج لطرفي الطول والقصر، فيقول:

"وقلت: والناس وإن قالوا في الحسن: كأنه طاقة ريحان، وكأنه خوط1 بان، وكأنه قضيب خيزران، وكأنه غصن بان، وكأنه رمح رديني، وكأنه صفيحة يمانية، وكأنه سيف هندواني، وكأنها جان، وكأنها جدل عنان2، فقد قالوا: كانه المشتري3، وكأن وجهه دينار هرقلي، وما هو إلا البحر، وما هو إلا الغيث، وكأنه الشمس، وكأنها دارة القمر، وكأنها الزهرة، وكأنها درة، وكأنها غمامة، وكأنها مهاة، فقد تراهم وصفوا المستدير العريض بأكثر مما وصفوا به القضيف4 والطويل. وقلت: وجدنا الأفلاك وما فيها، والأرض وما عليها، على التدوير دون التطويل، وكذلك الورق والتمر والحب والثمر والشجر، وقلت: والرمح إن طال، فإن التدوير عليه أغلب؛ لأن التدوير قائم فيه موصولًا ومفصلًا؛ والطول لا يوجد فيه إلا موصولا، وكذلك الإنسان وجميع الحيوان، وقلت: ولا يوجد التربيع إلا في المصنوع دون المخلوق، وفيما كره على تركيبه دون ما خلي وسوم5 وطبيعته، وعلى أن كل مربع ففي جوفه مدور، فقد بان المدور بفضله، وشارك المطول في حصته، ومن العجب أنك تزعم أنك طويل في الحقيقة، ثم تحتج للاستدارة والعرض، فقد أضربت عما عند الله صفحًا، ولهجت بما عند الناس".

طور بواسطة نورين ميديا © 2015