وواضح أن عبد الحميد يعتمد على خاصة الترادف الموسيقي، فالفكرة تؤدي لا في عبارة واحدة، وإنما في عبارتين أو عبارات، حتى يكتسب الأسلوب ضربا من التوقع والتعادل الصوتي، فإذا العبارات تتلاحق متوازنة متعادلة تعادلا موسيقيا رائعًا، يرضي الآذان والشعور، وهو أثناء ذلك يعتمد على الحال اعتمادًا مسرفًا لا نعرفه عند الوعاظ، ولا عند من سبقوهم وعاصروهم من الخطباء، إنما نعرفه عند سالم وابنه عبد الله ثم عند صاحبنا، وكأنها أصبحت لازمة من لوازم تلك المدرسة.
ويوشي عبد الحميد أسلوبه بحلية التصوير، وما يدمج فيه من استعارات، وبحلية الطباق والمقابلة، بالضبط على نحو ما كان يصنع الحسن البصري، وغيلان الدمشقي وأضرابهما في رسائلهم ومواعظهم، ومن رسائله الطريفة التي تصور مهارته البيانية تصويرا دقيقا رسالته للشخصية إلى أهله، وهو منهزم مع مروان يعزيهم عن نفسه1:
"أما بعد فإن الله جعل الدنيا محفوظة بالكره والسرور، وجعل فيها أقسامًا مختلفة بين أهلها، فمن درت2 له بحلاوتها، وساعده الحظ فيها سكن إليها، ورضي بها، وأقام عليها، ومن قرصته بأظفارها، وعضته بأنيابها، وتوطأته بثقلها، قلاها3 نافرًا عنها، وذمها ساخطا عليها، وشكاها مستزيدا منها.
وقد كانت الدنيا أذاقتنا من حلاوتها، وأرضعتنا من درها أفاويق4 استحليناها ثم شمست5 منا نافرة، وأعرضت عنا متنكرة، ورمحتنا6 مولية، فملح عذبها، وأمر حلوها، وخشن لينها، ففرقتنا عن الأوطان، وقطعتنا عن الإخوان. فدارنا نازحة، وطيرنا بارحة7، قد أخذت كل ما أعطت، وتباعدت مثلما تقربت، وأعقبت بالراحة نصبا8، وبالجدل9 هما، وبالأمن خوفا،