نحو ما نعرف الآن في حلقات الذكر. يقول:
تزيّوا بالتَّصوف عن خداعٍ ... فهل زُرْتَ الرِّجالَ أو اعتميت1
وقاموا في تواجدهم فداروا ... كأنهم ثمالٌ من كُمَيتِ2
ويقول أيضًا:
تستروا بأمورٍ في ديانتِهم ... وإنما دينُهم دينُ الزناديقِ
نكذبُ العقلَ في تصديقِ كاذبِهِم ... والعقلُ أولى بإكرامٍ وتصديقِ
وهكذا استمر أبو العلاء يرى الدنيا هذه الرؤيا السوداء، وتجمعت ظلمات كثيرة من حوله بعضها فوق بعض؛ فالدنيا آلام وعذاب ونكبات ونوائب، بل هي شر مستطير يجب أن نتخلص منه فنخرج من هذا العالم الموحش المظلم، ونستريح من متاعبه وآلامه:
حياتي تعذيبٌ وموتي راحةٌ ... وكل ابنِ أنثى في التُّرَابِ سجينُ
ولا شك في أن أبا العلاء بتشاؤمه وسخطه على الدنيا والناس من حوله يثير في أنفسنا ضروبًا من الشفقة عليه؛ إذ كان يتجرع الحياة غصص خالصة. ولو أنه أخذ نفسه بالرضا والتسليم فاقتنع بحظه وحظ الناس من حوله، وما في دنيانا من نصب وعذاب لاستراح وأوى إلى ظل ظليل، ولكنه لم يرضَ ولم يسلِّم ولم يقتنع فسعر نفسه وأودى بها في هذا الجحيم المظلم من الإحساس بالشقاء والتعاسة وما ينطوي فيهما من تشاؤم شديد، وظل في هذا الجحيم يصارع الناس ويصارع الحياة حتى صرعته.