الجانب الرمزي الذي كان يستعيره من بيئة المتصوفة، واقرأ له هذين البيتين في القصيدة؛ إذ يقول:

لا تكثُرُ الأَمواتُ كثرةَ قلّةٍ ... إلا إذا شقيت بك الأحياءُ

والقلبُ ينشقُّ عمَّا تحتَهُ ... حتى تحُلَّ به لك الشَّحْنَاءُ

فستراهما يحملان في أيديهما دليل هذه الرمزية، وإلا فماذا يريد المتنبي بكثرة القلة؟ وكيف تشقى بصاحبه الأحياء؟ وما هذا الانشقاق الذي يصيب به القلوب؟ وما هذه الشحناء التي تحل بها؟ لقد اضطرب شراح المتنبي في تفسير البيتين اضطرابًا واسعًا1، والمسألة أقرب مما تصوروا، ومفتاحها أنه كان يعمد في هذه القصيدة إلى المذهب الرمزي ليرضي ممدوحه الصوفي فهو هنا يرمز على طريقة الصوفية في عباراتهم التي لا تفهم، وواضح أن المتنبي يرمز إلى الحلول في كثرة القلة. ولعل مما يصور هذه الرمزية أيضًا ما لاحظه "ماسينيون" في بيت الشمس والهلال السابق وما لاحظه أيضًا في قوله:

أُحادٌ أَم سُداسٌ في أُحادِ ... لُيَيلَتُنا المَنوطَةُ بِالتَّنادِ

فقد فسر هذا البيت بالبيت الذي يليه:

كأن بناتِ نعشٍ في دجاها ... خرائدُ سافراتٌ في حِدَادِ

إذ جعل العدد رمزًا لبنات نعش في البيت الثاني3.

ومهما يكن فقد كان المتنبي يستعين بالأسلوب الرمزي في شعره وكان يستعيره من المتصوفة والمتشيعة جميعًا، وإن الإنسان لا يكاد يقرأ في هذه القصيدة التي نحن بصددها حتى يحس إحساسًا واضحًا بأنه يقرأ لشاعر من طراز مخالف للمألوف من الشعراء، وانظر كيف بدأ القصيدة:

طور بواسطة نورين ميديا © 2015