هذا ما ننكره؛ إنما ننكر أنها تعمقت التفكير الفني كما تعمقته عند أبي تمام، وننكر أيضًا أن أحدًا من الشعراء استغلَّ منها جانبًا عقّده واستخرج منه أصباغ زينة وتجميل، كما رأينا عند أبي تمام.
على أننا لا نكاد نترك القرن الرابع وأوائل الخامس حتى يهجر الشعراء الفلسفة ويصبح الأدب أدب ألفاظ وحس فقط، لا أدب أفكار وثقافة فالشعراء لايحاولون أن يوازنوا بين حسن التفكير وحسن التعبير، وأن يأتوا بالمحسنات البديعية مقرونة بالأفكار الفلسفية كما هو الشأن عند أبي تمام. وهو نوع من إجداب الحضارة العربية والعقل العربي؛ فقد أخذت هذه الحضارة وهذا العقل ينفصلان عن الفلسفة والتفكير الفلسفي، حتى لنجد المتأخرين يسمون علوم الفلسفة علومًا مهجورة. يقول الذهبي في ترجمة ابن رشد التي أوردها رينان في كتابه "ابن رشد ومبادئه": "ونسب إليه كثرة الاشتغال بالعلوم المهجورة من علوم الأوائل"1، ويقول السيوطي في "بغية الوعاة" عن حسن بن علي القطان: "وكان فاضلًا عالِمًا باللغة والأدب والطب وعلوم الأوائل المهجورة"2.
انحازت الفلسفة عن التفكير الفني إلا ما كان من المنطق ودراسته؛ فقد كان يعنى به المثقفون عامة، وقد وضع فيه الأبهري كتابه إيساغوجي في القرن السابع، كما وضع بعده بقليل نجم الدين القزويني كتابه "الشمسية في القواعد المنطقية"، ووضعت على هذين الكتابين شروح وتعليقات كثيرة، ولكن نمو المنطق لم يُفِدْ الفن العربي كثيرًا؛ لأن المنطق يقوم على التحديد والفصل بين الأشياء، ولا يترك في العقول انعكاسًا لهذا الغموض الذي يحسه الفنان في داخله وطوية نفسه، وبذلك استمر الشعر العربي بعد القرن الثالث شعر المنطق المحسوس والوعي الظاهر المكشوف.
على كل حال لم يعتنق الشعراء التفكير الفلسفي، ولذلك قلما نجد بينهم من