هذا اليوم وليله، أما نهاره فظلمة من دخان في ضحى قاتم. بل في ضحى شاحب. وأما ليله فضوء من النار في ظلام عاكف، وإنه لتعلوه الحيرة، فالشمس طالعة وقد رآها غاربة، والشمس يراها غاربة وهي غير غاربة، أرأيت إلى وصف هذا الحريق وما استخدم فيه أبو تمام من ألوان التجسيم والطباق ونوافر الأضداد؟ إن أبا تمام كان يُحكم استخدام الألوان في فنه إحكامًا شديدًا فإذا هو يستخرج منها هذا الزخرف النادر.

ونراه يتحدث بعد ذلك عن هذا اليوم الطاهر الْجُنُب وما فيه من الزواج والعزوبة، وهي فكرة كانت تروق الجيش الظافر الذي اقتسم السَّبْي، وقد استخدم فيها التعبير بنوافر الأضداد ليكسبها ضربًا من الروعة الفنية. وأخيرًا يعرض علينا هذه الصور الغريبة التي مزجها بعناصر قديمة؛ فهذه عمورية على ما بها من الجرب وعلى ما أصاب خدها من نمش النار وتشويه الدخان أحب في عينه من ربع ميَّة في عين ذي الرمة الذي عاش يتعبد جمالها ويتغنى بوصفها، أرأيت كيف يتحول تاريخ الأدب إلى عجب من الفن والتصوير؟ ثم أرأيت إلى هذه السماجة التي تصبح باستخدام نوافر الأضداد أجمل من كل جميل وأبدع من كل بديع؟ إن أبا تمام كان يعرف كيف يحول الثقافة وألوانها القاتمة إلى فن وألوان زاهية. وإن الإنسان ليدهش حين يراه يلائم بين الفكر الحديث والعناصر العربية القديمة ويستغل تلك العناصر لتعبر عن ثقافته وفكره الحديث، واستمر في القصيدة فسترى الدلاء والأوتاد والطُّنُب تأتي لتعبر عن أروع الأفكار، كأن يقول هذا البيت الذي سبق أن عرضنا لما فيه من رمز.

إن الحِمامين من بيضٍ ومن سمرٍ ... دلوا الحياتين من ماءٍ ومن عشبِ

فانظر أين وضع الدلاء ليعبر عن فكرة فلسفية دقيقة، ثم اقرأ قوله:

حتى تركت عمودَ الشركِ منقعرًا ... ولم تعرج على الأوتادِ والطّنب

فقد عبر عن أخذ المعتصم لعمورية دون ما حولها من القرى والمدن الصغيرة هذا التعبير الرمزي الطريف بقطعه للعمود والأس من أصله دون ما حوله من

طور بواسطة نورين ميديا © 2015