تصرّح الدّهر تصريح الغمامِ لها ... عن يومِ هيجاءَ منها طاهرٍ جنبِ1

لم تطلع الشمس فيه يوم ذاك على ... بانٍ بأهلٍ ولم تغرب على عَزَبِ2

ما ربعُ ميّةَ معمورًا يطيفُ به ... غيلانُ أبهى ربًى من ربعها الخربِ3

ولا الخدود وقد أدمين من خجلٍ ... أشهى إلى ناظر من خدّها التّرب4

سماجةٌ غنيت منا العيون بها ... عن كل حسن بدا أو منظر عجب5

وحسن منقلبٍ تبدو عواقبُهُ ... جاءت بشاشتُه عن سوءِ منقلبِ

وعلى هذه الشاكلة يستمر أبو تمام في هذه القصيدة فيجعلك تحس باستعلائه على الشعراء؛ إذ يمزج بين الثقافات وألوان الشعر مزجًا طريفًا، فأنت تراه في البيت الأول يعمد إلى عنصر قديم هو عنصر الحلب، فيحوره تحويرًا جديدًا إذ يضيف إليه العسل فيعطيه طعمًا طريفًا. وتراه يخرج من ذلك إلى الحديث عن الصراع بين الإسلام والمسيحية وهو في أثناء ذلك يغمس الشعر في الطباق بين الصَّعَد والصَّبَب، ثم لا يلبث أن يخرج إلى وعاء التشخيص يعبر به عن عزة عمورية وما دهاها، تلك السيدة الفاتنة التي كانت تُدلُّ على الملوك والأكاسرة، حتى آتاها المعتصم فأقبلت عليه طائعة ذليلة. وهنا نراه يعرض التاريخ عرضًا غريبًا، عرضًا فنيًّا إن صح هذا التعبير؛ فها هما كسرى وأبو كرب يأتيان في الشعر عاشقين مدلهين، وهو تاريخ؛ ولكنه تاريخ فني وهو تاريخ قصد به إلى الفن. وهذا هو معنى ما قلناه كثيرًا من أن أبا تمام كان يحول الثقافة إلى بدع من الشعر والفن، حتى التاريخ يتحول بطريقة غريبة إلى لون من ألوان الفن. وقد جاء بالإسكندر ليدل على ثبات عمورية وقدمها، وهنا نحس أثر الثقافة اليونانية في هذا القدم والثبات الذي يقصد إليه، ونحن نحسها دائمًا في صياغته العقلية وما أشرنا إليه من استخدامه لنوافر الأضداد التي نشرها في جميع أشعاره. وما يزال أبو تمام يلائم بين هذه الثقافات وعناصرها من فارسية وعربية وإسلامية ويونانية،

طور بواسطة نورين ميديا © 2015