أن زهيرًا كان يعرف بسر مهنته معرفة دقيقة، واستمر في المطولة؛ فستراه يصور رحيل أحبائه تصويرًا رائعًا إذ يقول:
تبصر خليلي هل ترى من ظعائنٍ ... تحمّلن بالعلياء من فوق جُرثم1
عَلَوْنَ بأنماط عتاق وكِلَّة ... وِرادٍ حواشيها مشاكهةِ الدّم2
وورَّكن في السوبان يعلون مَتْنه ... عليهن دَلُّ الناعم المتنعِّم3
وفيهن ملهى للصديق ومنظر ... أنيق لعين الناظر المتوسمِ4
بَكَرن بكورًا واستحرن بِسُحْرَةٍ ... فهنَّ لوادي الرَّسِّ كاليد للفم5
جَعَلْن القَنانَ عن يمين وحَزْنَهُ ... ومن بالقَنان من مُحِلٍّ ومحرمِ6
ظَهَرْنَ من السُّوبان ثم جَزَعنه ... على كل قَيْنِيٍّ قشيبٍ مفَأَّمِ7
كأن فُتاتَ العِهن في كل منزل ... نزلن به حَبُّ الفَنَا لم يحطم8
فلما وَرَدْنَ الماءَ زُرْقًا جِمامه ... وضعن عِصِيَّ الحاضر المتخيِّمِ9
وأنت ترى أن طرافة عرض الحوادث كأنها منظورة استقامت له مع الفعل الماضي؛ لأنه يعرف لغة حرفته معرفة جيدة؛ فهو يستعمل المضارع في تصويره، وإن استعمل الماضي جاء به دالا على الحركة فلا يقل جمالًا عن أخيه، وانظر تر الظعائن ما تزال سائرة من مكان إلى مكان، وهو يتبعها في هذا السير بالأفعال التي تدل عليه، وينتقل معها من العلياء إلى السوبان،