قديمة طالما رددها الشعراء من عهد بشر بن أبي خازم والنابغة، وهي فكرة الطير تتبع الممدوح في حِلِّه وترحاله لما تصيب من جثث أعدائه، ويحور مسلم الفكرة هذا التحوير الطريف؛ إذ يجعل الطير تتعود من صاحبه عادة تثق به فيها، وهي لذلك ما تزال تتبعه وتلاحقه من موضع إلى موضع.

ولعلك لاحظت في أثناء قراءة أبياته السالفة دقة تفكيره، وهي دقة كانت تفتح له أبوابًا من المعاني الخفية، التي تروِّع السامع بغرابتها وطرافتها من مثل قوله في الغزل1:

إن كنت تسقين غير الراح فاسقيني ... كأسًا ألذُّ بها من فيكِ تشفيني

عيناك راحي، وريحاني حديثُك لي ... ولونُ خدَّيك لونُ الورد يكفيني

وقوله2:

يا واشيًا حسنت فينا إساءته ... نجي حذارك إنساني من الغرق3

وقوله في الخمر4:

شققنا لها في الدَّنِّ عينًا فأسبلت ... كألسنةِ الحيَّات خافت من القتلِ5

وقوله في الساقي6:

يسقيك بالألحاظِ كأسَ صبابةٍ ... ويديرها من كفِّه جِرْيالا7

وقوله في المديح8:

فإن أَغْش قومًا بعدهم أو أَزُرْهم ... فكالوحشِ يدنيها من الأنس المحلُ9

ويستمر مسلم في الديوان كله على هذا النمط؛ فزخارف الفكر واللفظ ما تزال تتلاحق وينضم بعضها إلى بعض لتكون هذا الحلي البديع، وهو حلي يتداخل في بناء متماسك، يرفعه مسلم كما يرفع المثَّالون تماثيلهم؛ فكل جانب يفتقر إلى جهود واسعة وإلى مثابرة وصبر، وحقًا هو صاحب هذا المذهب من

طور بواسطة نورين ميديا © 2015