جودة الطبع وجودة السبك والحذق بالصنعة، وإن تأملت شعره فضلته؛ إلا أن تعترض عليك فيه العصبية أو ترى أن أهل البدو أبدًا أشعر وأن المولَّدين لا يقاربونهم في شيء، فإن اعترض هذا الباب عليك فإنك لا تبصر الحق من الباطل ما دمت مغلوبًا1"
وعلى هذا النحو زَحَم شعراءُ البصرة والكوفة وبغداد شعراءَ البادية في نماذجهم من الأراجيز المحشوة بالألفاظ الغريبة وأثبتوا أنهم يبزونهم، حتى في تلك النماذج الخاصة. ولعل في هذا ما يدل -من بعض الوجوه- على مدى ما كان يأخذ به الشاعر الحضري في تلك الأزمان نفسه من التثقف ثقافة عميقة بالشعر العربي الموروث واللغة العربية الصحيحة، يأخذها عن أهلها بالْمَرْبَى فيهم، والرحلة إلى بواديهم، فهم يروون أن بشارًا كان يقول: "من أين يأتيني الخطأ، ولدت ههنا "في البصرة" ونشأت في حجور ثمانين شيخًا من فصحاء بني عُقَيل، ما فيهم أحد يعرف كلمة من الخطأ، وإن دخلت على نسائهم فنساؤهم أفصح منهم، وأيفعت فأبديت "دخلت البادية" إلى أن أدركت؛ فمن أين يأتيني الخطأ2" أما أبو نواس فقد خرج إلى البادية وأقام فيها حولًا كاملًا ليثقف اللغة من منابعها الحقيقية3. ويقول الجاحظ عنه: "ما رأيت أحدًا كان أعلم باللغة من أبي نواس ولا أفصح لهجة مع حلاوة ومجانبة لا استكراه"4، ويقولون: إنه "كان يحفظ دواوين ستين امرأة من العرب فضلًا عن الرجال5" وإنه حفظ سبعمائة أرجوزة غير ما حفظه من قصائد الجاهليين والمخضرمين والإسلاميين وأوائل المحدثين6، وقال أبو عمرو الشيباني: "لولا ما أخذ فيه أبو نواس من الرفث لاحتججنا بشعره؛ لأنه محكم القول7".
وأكبر الظن أن فيما قدمنا ما يدل على مبلغ ما كان يأخذ به بعض الشعراء.