خلدون في المقدمة: والحق أن الكلام مع المتصوفة في أربعة مواضع:

الأول: المجاهدات والمقامات، وما يحصل من الأذواق والمواجد في نتائجها، ومحاسبة النفس على التقصير في أسباب تلك الأذواق التي تصير مقاما، ويترقى منه إلى غيره، وهذا لا مدفع فيه لزحد، وأذواقهم فيه صحيحة، والتحقق بها عين السعادة.

والثاني الكرامات كالكشف والتصرفات في الأكوان بخوارق العادات، وهذا غير منكر وإنكار ليس من الحق، وقول الأستاذ الإسفراييني: إنه يلتبس بالمعجزة. فلا لبس؛ إذ الفرق هو التحدي، والوجود شاهد بوقوع الكثير من الكرامات للصحابة، وكثير من السلف، وإنكارها مكابرة.

الثالث: حقائق العلويات، وترتيب صدورها، والحقائق لمدركة من علم الغيب كالصفات الربانية، كل موجود غائب، وأكثر كلامهم فيه من نوع من المتشابه إذ هو وجداني عندهم، وفاقد الوجدان بمعزل عن أذواقهم فيه، واللغات لا تعطي دلالة على مرادهم؛ لأنها لم توضع إلا للمتعارف، وأكثره محسوسات، فينبغي أن يعامل كلامهم معاملة المتشابه.

الرابع: ألفاظ موهمة الظاهر صدرت من كثير من أئمتهم يعبر عنها بالشطحات تدل على خلاف المعتقدات كالحلول والاتحاد، ووحدة الوجود، فأما من علمت إمامته وثبت فضله ومتانة دينه، فالإنصاف أنهم أهل غيبة عن الحس، والواردات تملكهم حتى ينطقوا بما لا يقصدونه، فالمجبور معذور، والعبارة عن المواجد صعبة لفقدان الوضع لها كما وقع لأبي يزيد وأمثاله.

وأما من لم يعلم فضله، ولا اشتهر، فمؤاخذ بما يصدر عنه ما لم يتبين لنا ما يحملنا على تأويل كلامه، وكذلك من تكلم بمثلها وهو حاضر لم يملكه الحال ولو من أئمتهم وأفاضلهم فإنه مؤاخذ أيضا ولذا أفتى الفقهاء وأكابر المتصوفة بقتل الحلاج لأنه تكلم في حضور وهو مالك لحاله، وسلف المتصوفة من أهل رسالة القشيري لم يكن لهم حرص على كشف الحجاب وإنما همهم الاتباع والاقتداء ما

طور بواسطة نورين ميديا © 2015