ذَلِكَ كَالْإِنْسَانِ الَّذِي يَرَى قَصْرًا عَلَى بُعْدٍ , فَيَأْتِيهِ , فَيَرَى مِنْ قُرْبِهِ مَا لَمْ يَكُنْ يَرَى مِنْ بُعْدِهِ , وَكَذَلِكَ إِنْ تَهَيَّأَ لَهُ الدُّخُولُ إِلَيْهِ , وَكَالْإِنْسَانِ الَّذِي يَكُونُ عَلَى الْأَرْضِ الْمُسْتَوِيَةِ , لَا يَرَى شَيْئًا إِلَّا مَا قَارَبَهُ , وَمَا هُوَ حِذَاءَهُ , غَيْرُ بَعِيدٍ مِنْهُ , خَاصَّةً إِذَا كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ نَشَزٌ مِنَ الْأَرْضِ أَوْ جَبَلٌ , فَإِذَا عَلَا عَلَى ذَلِكَ كَانَ كُلَّمَا ارْتَفَعَ وَارْتَقَى أَشْرَفَ عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ مُشْرِفًا عَلَيْهِ طَوْلًا وَعَرْضًا , فَإِذَا تَكَلَّفَ الصَّعُودَ إِلَى أَعْلَى رَأْسِ الْجَبَلِ , انْكَشَفَتْ لَهُ الْأَرْضُ وَالْمَوَاضِعُ الَّتِي لَمْ يَكُنْ يَرَاهَا قَبْلَ ذَلِكَ , وَلَمْ يَكُنْ يَقْدِرُ عَلَى رُؤْيَتِهَا إِلَّا بِهَذَا التَّعَبِ وَالتَّكَلُّفِ الَّذِي صَارَ إِلَيْهِ , فَيَبْدُو لَهُ فِي كُلِّ خُطْوَةٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ مَا لَمْ يَكُنْ يَبْدُو لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ , فَكُلَّمَا زَادَ ارْتِقَاءً , ازْدَادَ مَعْرِفَةً بِمَا لَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ رَآهُ وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ , كُلَّمَا تَعَلَّمَ الْمَرْءُ مِنْهُ أَصْلًا انْكَشَفَ لَهُ مَا فِيهِ وَشَاكَلَهُ وَمَا فِي بَابِهِ وَطَرِيقِهِ وَاسْتَدَّلَ بِهِ عَلَى مَا سِوَاهُ , إِذَا كَانَ فَهْمًا وَوَفَّقَهُ اللَّهُ وَقَدُ شُبِّهَ صَاحِبُ أَدَبِ الْجَدَلِ قَبْلَ هَذَا النَّظَرِ وَالْكَلَامِ بِالنَّخْلِ يُؤَبِّرُهُ وَيَقُومُ عَلَيْهِ , فَيَنَالُ مِنْ ثَمَرَتِهِ مَا لَا يَنَالُ عِنْدَ تَرْكِ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ الْحَدِيدُ وَالْحَجَرُ , مَا لَمْ يَسْتَعْمِلْهُمَا لَمْ تَخْرُجِ النَّارُ , وَلَمْ يُوجَدْ مَا يَنْفَعُ لَمَّا احْتِيجَ إِلَى طَبْخٍ وَتَسْخِينٍ , فَإِذَا أُورِيَ خَرَجْتِ النَّارُ , فَإِذَا وَقَعَتْ فِي الْحِرَاقِ وَتُرِكَتِ انْطَفَأَتْ , وَإِنْ أُمِدَّتْ بِنَفْخٍ وَكِبْرِيتٍ