لم يكن في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - مسجد تقام فيه صلاة الجمعة بالمدينة إلَّا مسجد واحد هو المسجد النبوي، وكان المسلمون يأتون إليه لصلاة الجمعة به، من أطراف المدينة وضواحيها، كالعوالي، واستمر الحال على ذلك في عهد الخلفاء الراشدين -رضي الله عنهم -، وذلك دليل عملي منه - صلى الله عليه وسلم - على قصد جمع المسلمين في صلاة الجمعة في البلد الواحد على إمام واحد، إشعارًا بوحدة القيادة، وجمعًا للقلوب، وتأليفًا للنفوس، وزيادة في التعارف، وتأكيدًا لمعاني الأخوة، ولو كان تعدد الجمع في البلد الواحد من غير مبرر شرعي مباحًا، لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه -رضي الله عنهم -، أن يصلي كل منهم الجمعة في مسجده بأطراف المدينة؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم -: "ما خُيِّرَ بين أمرين إلَّا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه" وفي ذلك تيسيرٌ على أمته وتخفيفٌ عنها، وعملٌ بعموم قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (?)، وعموم قوله: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} (?)، فلما لم يأمرهم بالتعدد، ولم يأذن لهم فيه، دلَّ ذلك على قصده - صلى الله عليه وسلم -، إلى توحيد الجمعة في البلد الواحد، وجَمْعِهم على إمام واحد فيها؛ لما تقدم بيانه من الحكمة في ذلك.
لكن إذا كانت المساجد التي تقام فيها صلاة الجمعة تضيق بمن يصلي فيها الجمعة حتى أن كثيرًا منهم يصلي في الشمس الشديدة الحرارة وفي الطرق وفوق السقوف، فلا مانع من أن تقام الجمعة في مساجد أخرى زيادة على المساجد التي تقام فيها الجمعة، حسب ما تقتضيه الحاجة؛ تيسيرًا على الناس، ودفعًا للحرج عنهم، ولهذا لما كثر المسلمون بعد عهد الخلفاء الراشدين وازدحمت المساجد بمن